- قبل أن يرحل ذلك الرجل الشريف كتب:
أنا هالكٌ حتماً 
فما الداعي إلى تأجيل موتى
جسدي يشيخُ
ومثله لغتي وصوتي
ذهبَ الذين أحبهم 
وفقدتُ أسئلتي ووقتي
أنا سائرٌ وسط القبورِ
أفرُّ من صمتي 
لصمتي.
أنا ليس لي وطنٌ 
أفاخر باسمهِ 
وأقول حين أراه:
فليحيا الوطن
وطني هو الكلماتُ 
والذكرى 
وبعضٌ من مرارات الشجنْ
باعوه للمستثمرين وللصوص 
وللحروبِ 
ومشت على أشلائهِ
زمرُ المناصب والمذاهب 
والفتن.
صنعاء …
يابيتاً قديماً 
ساكناً في الروح 
يا تاريخنا المجروح
والمرسوم في وجه النوافذ 
والحجارة 
أخشى عليك من القريب
ودونما سببٍ
أخاف عليكِ منكِ 
ومن صراعات الإمارة.

- لا يمكن أن تزور صنعاء، ولا تيمم شطر زاوية الشاعر والكاتب والأكاديمي والمناضل والشريف «عبدالعزيز المقالح»، كان عنوان صنعاء، ومهتدى للأغراب عن المكان، كان زوّار اليمن يتقصدون اللقاء به، ولا يفوتون العروج على عتبة باب داره، هناك رجال قُدّوا من شرف في كثير من الأماكن، لا يمكن للمرء أن يتخطاهم أو يتناساهم أو لا يعلق بيده مسك لقياهم، فلا يمكن أن تزور القاهرة في حينها، ولا تلتقي برجل شريف مثل «محمود أمين العالم» ولا عدن في وقتها، ولا تزور «عمر الجاوي»، تتعدد الأمكنة، ويكثر الشرفاء، وبالأمس نقص العالم من رجل شريف آخر هو الشاعر اليمني «عبدالعزيز المقالح» الذي ودعنا عن عمر يناهز «85» عاماً، قضاها بين الشعر والأدب والثقافة وشرف المواقف، وحب الروية والأوطان، وقد كانت وصيته الأخيرة لكي لا يُثلم الشرف، أن لا يعمل له مغتصبو السلطة، ومن دنسوا الوطن، وجرحوا عروبته بالارتهان السياسي والطائفي أي جنازة رسمية، لذا تكفل الشعب اليمني الأصيل، وخرج عن بكرة أبيه مودعاً ومشيعاً ذاك الشاعر الذي ما خرج من مدينته في أحلك الظروف وأطيبها، ولم يسافر من صنعاء إلا إلى صنعاء، كانت عالمه وعوالمه، رجل نذر نفسه للصدق ومعنى الشرف والانتماء، وانحاز للإنسان من قبل ومن بعد، طاف في جنازته عشرات الآلاف يهللون ويكبرون، ويعلون من قيمة الشرف حين يتمثل في إنسان كان عنوان عاصمتهم.
- يقول ذلك الرجل الشريف الذي رحل مؤخراً: الصمت عار…
الخوف عار
من نحن؟
عشاق النهار
نحيا
نحب
نخاصم الأشباح
نحيا في انتظار
سنظل نحفر في الجدار
إما فتحنا ثغرة للنور
أو متنا على وجه الجدار

ومرة.. جلت في اليمن وحيداً سائحاً، لكن كرم الأخوة اليمنيين ألزمني أن يكون معي سائق وسيارة ومرافق، فمشّطتها من شمالها لجنوبها، ووقفت في كل مدينة، عند شجرة الغريب، عند قبور الصالحين، في صعدة السلاح، والحديدة الساكنة جنب الماء، في تعز، ولا يمكن إلا أن تسمى كذلك، العَنَد، ذهبت عند بصير اليمن، وشاعرها «عبدالله البردوني» بعد لقائي ب «المقالح، دلفت وجلاً فرحاً إلى بيت «البردوني» المتواضع مثله، ومكتبته التي يعرف زواياها وأي الكتب تضم، فقط يشير بإصبعه، ويقول لك: على ذلك الرف ستجد كتاب «جمهرة أشعار العرب»، وعلى الرف العلوي جهة اليمين كتاب «الكامل في الأدب»، فتعجب من بصيرة ذاك الشاعر المبصر، قيّلت معهم في مقيلهم، وتطاعمت من قوتهم، وقاتهم، لكن العنب الرازقي أطيب، والعسل الدوعاني ألذ، ولحم الحنيذ أشهى، كانت صباحات ومساءات حين تعنّ الآن، تخرج آه ساخنة، مثل آه الشاعر غازي القصيبي: 

ألوم صنعاء يا بلقيـــــس أم عَدَنا     أم أمة ضيعـــــــت بالأمــــــــس يَزَنا
ألوم صنعاء لو صنعاء تسمعنـــــي     وساكني عــــــدن لو أرهــــــف الأذنا
وصغت من وهج الأحلام لي مدناً     واليوم لا وهجاً أرجو ولا مدنا
- لروح ذلك الشاعر الجميل، والوطني الشريف السكينة والهدوء والراحة الأبدية، ولا عزاء لصنعاء!