-    لا عليك إن كنت المخاطب أيها الأنا، أم ذلك الغائب المستتر الذي تقديره هو، فحين يتحد الـ «أنا» والـ «هو»، يصعب التفريق، فلا يعلم بـ «هو» إلا الـ «أنا».
-    صباح المسرات.. لا يدركه إلا من اغتسل بكلمات الفجر، ووجد درباً للدعاء معشباً، وقال: توكلت على فعل الخير، وتوكأت على عصا الإحسان، فلا صباح يمكنه أن يتحمل كل هذا الحب، ووزر كل هذا الود، ولا يصبح نديّاً بالبركات، صباح الوطن حين يكون الوطن هو الذات.
-    هناك امرؤ حمل وصية الوطن، وما نذره أولئك الأهل الطيبون، حين علقوا حول عنقه كلماتهم وخواتيم أفعالهم، وقالوا له: اذهب فإنك قادر، لا يحدو بك إلا أصوات الأولين، ولا يهتدي نجمك إلا بغنائهم، ولا يردك إلا ما قد يثقل أرواحهم، فرحتك أن تكون حارساً للمدينة، حاملاً عطرها تنثره حين يغيب الوفاء، وحين يستشري البلاء، وحين تصيح امرأة من فقر ومسغبة، وحين يحرق دمع العين هامة رجل من فولاذ، وحين يكون الظلم مترصداً البسطاء، قف أنت حارس الأشياء، ولَوّح: ما هكذا.. يُقَدر الإنسان، ولا هكذا تعامل الأوطان!
-    قال شيخ نَحَتَه الزمن، وصلُب على أوجاع الدهر والحياة، وغدا مثل شجرة مورقة على نهر: لقد مرت عليّ جثث متورمة ساقها الماء إلى جهات بعيدة، وزوايا غريبة، لقد تساقطت على وجه هذا النهر كلمات مثل الزَبَد، ذهبت جُفاء، لقد تهرب العابرون في ليال غاب قمرها، وخطفت مراكبهم تتبع هسيس دواب الليل بلا سراج، لقد رأيتهم غُبر الوجوه، لهم روائح الخوف، وعطن الجُبن، لماذا يذهب الخبثاء، والمداحون والكاذبون بلا دعاء يودعهم، ولا نبرة صدق تشيعهم؟ لماذا يذهبون فرادى، لا أحد وراءهم غير عواء ريح كتوم، بلا حس صديق، ولا صوت صدوق، ولا نور قد يفيد أقدامهم المرتجفة؟ لا ترسموا وجه شخص لا يحبكم، لا تنزلوه في قاع ذاكرتكم، لا تفتحوا له باب دار إن عرفه أذاع سركم، فـ «لا ينفع نعيم إلا نعيم، ولا يرفع الخيمة إلا عمودها»، و«اللي ما أتقى يوم الرخاء، وإلا على الحَزّات ما واحا لها»!
-    قال أحد العارفين: قطعت بحوراً حتى آخر أفق تغط فيه الشمس، وسلكت دروباً كانت عَصيّة إلا على الفهم، البسملة وآي الفتح، وما يتعوذ منه الإنسان من الأنس والجان، هي المسلك ونهج الهداية، وبلسم السبيل، وحين وطئت أرض البلاد البعيدة، بغيتي نور المعرفة، وسر الضجيج، ولِمَ هي الأماكن وحدها التي تخلق صوتها، وتديم فعلها، ولو كانت على حافة جرف هاو في المحيط؟ قال الرجل الصالح العارف: ذهبت من يومي ووقتي إلى مراقد من مروا على المكان، ووجدت السر مدفون تحت رؤوسهم، وأنهم لم يخونوا الأوطان، فلزمت ركعة سجود السهو، وتلمس موطئ أقدام ما عرفت غير الثبات، ولا معنى للهروب في عز الشدات، فجعلوا من ذاك الوطن الصغير كبيراً، لا يكف عن الصهيل، ويقول للعالم: الأوطان والرجال مواقف، وثوابت، وأشياء كُثر لا تقبل الهوان!
-    كثيرة هي الأمور في الحياة.. وكثير هم الرجال الذين يشبهون شجرة مورقة على نهر، بصيرتها المدى، وجذور تتوحد وتتحد بأعماق الأرض.