أخبره الطبيب بكل هدوء وهو يتطلع عبر جهاز كبير وضع بينهما -وكأنه يفعل ذلك كل يوم- أن ما يفصله عن الضوء الذي يعيشه الآن وبين الظلام المقبل وقت قصير للغاية لا يزيد على ساعات، فنظره ذاهب لا محالة بعد تفشي العجز في عينيه. أضاف الطبيب -وقد علت على وجهه ابتسامة بلهاء بعد أن أزاح الجهاز القابع بينهما- أنه وعلى رغم كل محاولات العلاج الماضية للحد من ذلك، إلا أن ما يشهده الآن هو آخر خيوط الضوء!
بدا صاحبنا تائهاً تماماً، على رغم علمه بتوقعات حدوث ذلك منذ زمن، بل ومصعوقاً، لا لكونه سيفقد بصره، وإنما لقصر الوقت الباقي له. غير أنه أساساً لا يعرف ماذا سيفعل به، وبماذا عليه أن يبدأ: بترتيب أوراقه المالية التي لا يعلم عنها أحد، أم إعداد مكان إقامته ليسهل عليه الحركه، أم أن عليه محاولة إشباع نفسه برؤية أشياء يحبها.. حديقة بحر سماء.. أم عليه رؤية شفتي والدته وهي تدعو له، وعيني زوجته وهي تضحك، وولده يفغر فاه وهو ينادي عليه.. عليه أن يحفظ ذلك ليسترجعه، ولكن.. يسقط الظلام.
ألا تبدو لكم هذه القصة مألوفة؟! إنها بالفعل كذلك، وهي حقيقة تحدث كل يوم في هذا العالم، سواء أخبرنا بها أحدهم أم قرأناها في مكان ما، ولكننا نتعامل معها وكأنها بعيدة تماماً عنا، وكأننا محصّنون باستمرار من تلك القصص والحكايا المؤلمة من حولنا! لا أعلم يقيناً سبب هذه الطبيعة الإنسانية التي تجعلنا نتعاطى مع الألم حولنا بأنه سيبقى حولنا ولا يصيب مرمانا، لعلها وسيلة حماية خُلقنا بها لنكمل مشوار الحياة بلا خوف، أو لعله غرور يصيب بعضهم فيجعله يعتقد أنه لا يشبه غيره. غير أني متأكدة أنها قد تكون من أسوأ طباعنا البشرية.
قليلة هي القصص التي تغرس في وجدانك أركانها، فتتلبسك، لتصبح أنت بطلها الذي يصير بعد طي الصفحة الأخيرة أو انقضاء الكلمة الأخيرة منها. تنتهي من أمامك القصة ولكنها تبقى في داخلك، تصول وتجول وتطرح تلك المقاربات الصغيرة قبل الكبيرة، وتخبرك بأنك غير مستثنى إطلاقاً من تلك التفاصيل التي قرأتها وانزعجت منها أو سمعتها وضايقتك، أنت فقط محظوظ كونك في هذا الزمن المضارع الذي يمنحك وقتاً لا تعرف مقداره لتفكر قليلاً بالفرص الممكنة لتقليل أثر هذا الإزعاج أو تلك المضايقة.