كان صغيراً، نبيهاً، وله لمعة في عينيه بأهدابهما المتراخية، له بياض ذاهب إلى الحُمرة، وجسد معتدل سيطول كثيراً ويمتلئ مع الأعوام، كان حديث حسد بعض النساء اللاتي لا يصلّين على النبي. وحدها أمه التي تظل وجلة وهلعة عليه، تخاف عليه من العين، وما تخبي طوارق الليل، وجن النهار، كان كلما أراد الخروج تنثر في طريقه قصصاً عن «حمارة القايلة»، وعن الجن غير المسلسلين في القيود، وعن الهوام في الطرقات، وإذا ما سمعت حنحنة «ابن خصيف» عند الباب ثارت و«هَبّت ابنها من باطه»، لتخبئه من عينه الحارة، والتي يمكن أن تسقط «البيدار» المتمرس من نخلة، إذا ما أرسل له إحدى برقياته الخاطفة من تحت نابه الأزرق. كان ذلك الصبي بوسامته وفطنته مصدر فخر لها في الداخل، لكنه أيضاً كان مصدر قلق لها، ومثار خوف باستمرار عليه دون إخوته.
وما كانت تخاف منه عليه وقع له، وأصابت الفتى علثمة مفاجئة، وثقل لسانه، تجده يعرف الكثير، لكنه لا يقدر أن يخرجه في جمل مترابطة مثلما كان، الجارات الطيبات المواسيات أرجعن ذلك لأن جنية من سكان الأراضين التي تحت كفخته قبل ساعة المغرب، والرجال كالوا الأسباب لأبيه؛ أن ولده لم يسلم من عين «ابن خصيف» التي مثل الشرر، وبعضهم اقسم أنه سمع «ابن خصيف» بأذنه التي سيصيبها الصمم، ينعت ولده «يوسف» بأنه «مثل» طويرة الجنة، ما فيه ولا شمخ، وأنه غير أولاد الحارة «المحلطين»، وأن هذا الولد لو كان وصاة من الأولين عليه ما حصلوا مثله»!
 كانت كل الآراء من النساء والرجال؛ «أن عليهم أن يستدعوا مطوعاً يقرأ عليه، ويسوّي له قامة، ويكتب له محواً بماء الورد والزعفران أو يكتب له كتاباً وحجاباً عن العين، وأن يدخنوه بشَبّه ولبان وحنظل لطرد الروح الشريرة التي يمكن أنها ساكنة في جسده»!
جربت الأم التعِبة ما في حيلتها، حتى أنها نذرت أن تذهب به يوم الجمعة لقبر الولي في طرف المدينة، وأن تُقيّل النهار بطوله، وتذبح الذبائح وتعزم جيرانها والأهل، ولا يرجعون إلا حزة المغرب، والأب حاول مع أكثر من مطوع، حتى أنه ذهب إلى مطوع نعتوه له في عُمان، يقال إنه يصلي العشاء والفجر بوضوء واحد، رجع وجلب معه الكثير من القراطيس والحجب وأدوية عشبية، كانت كلها محاولات، حتى من أشار بأن يجلبوا «ابن خصيف» نفسه، ويحلف على رأس الفتى، ويتفل عليه ثلاث مرات، ويتفتف سبعاً، لكنها كانت محاولات، و«يوسف» ما برح على حاله، يتلعثم في أول جملة، ولسانه ليس كما ولد وشب، هناك ثقل لا يستطيع أن يترجم كل نباهته وفطنته، تضيع الأشياء منه، رغم أنه يشعرك أنها كانت في قبضة يده.
وحين صار «يوسف» حديث القرية اشتغل الناس بحكايته، والكل كان يريد أن يساعد أو يساهم بأي جهد، خاصة العجائز الطيبات، اللواتي انبرت واحدة من بينهن، كانت تسمى «الريح» لخفتها في شبابها، ولنقلها الأخبار بسرعة، خاصة حين تدعو لحضور عرس أحد، كانت تطوف تلك القرية في يوم، وتبلغ كل بيوتاتها، جلست لوالد «يوسف» وطلبت منه أن يجرب طريقة قالت عنها إنها من أحلامها الصادقة، لأنها لا تنام إلا على غسل ووضوء، وطلبت منه، إن صدقت التجربة، ألّا ينساها من معروفه، وكررت ذلك الشيء على الأم الوجلة، وزادت متطلباتها؛ «تراني أبا أثواب من قطن الهند، وكوش أسود جلد، ومضيربات عطر، ودخون وشيل وسمة»، كان رد الأب والأم: «فألك طيب.. غالي والطلب رخيص»!
ولكي تزيد «الريح» من أهمية حكايتها، وعمقها الغرائبي، ظلت تهمس بالحكاية همساً، وكأنها آتية من أسرار الكهوف القديمة، قالت: «يوم حدك العيد، تَلَبْسّ الجديد، وحط بشتك عليك، وتحزم، وسير مجلس شيخ القبيلة، وخلّ يوسف داخل بشتك، ولا يشوفه أحد..ها، وإذا برز الشيخ لاتكن بعيداً عنه، وحين يهمّ بتناول الحلوى من المقفلة، وتشوف اللقمة الأولى الحارة سايرة صوب اثمه، أمرطها من يده، ولقّمها «يوسف» لين ينشوي لسانه، وعقب ثلاثة أيام ردوا لي بالخبر»!
صدقت نبوءة «الريح».. وتحدث «يوسف»! كيف حدث ذلك؟ لا أحد يدري، حتى المطاوعة عجزوا عن تفسير الحدث.. من يومها صارت «الريح» تسكن عند قبر الولي!