المتقاعدون القدامى كانوا لا يفرقون كثيراً بين بيوتهم وأماكن عملهم، كانوا يعتبرونها «منازلهم» لأنهم يقضون فيها ساعات أطول من البيت، وربما لا يتقيدون بساعات الدوام الرسمي حين تكون هناك مهام ومشاغل تتطلب منهم الوجود فيها باستمرار، لكن في حقيقة واقعنا اليوم نجد أن علاقة المتقاعدين بأماكن أعمالهم ومقار أشغالهم السابقة أو «منازلهم» القديمة، علاقة لا يمكن أن تصفها إلا بعلاقة طرد نهائي، علاقة ليس فيها من صفات أهل الكار الواحد، علاقة عقوق، وعلاقة قطيعة أبدية، وكأن هذا الإنسان لم يكن يوماً ينتمي لهذا المكان أو كأن هذا المكان لا يعني لذلك الإنسان المتقاعد مقر عمل، وذكريات زملاء، وعلاقات إنسانية متشعبة، شهدت الحلو والمر، الفرح والحزن.
الذي أثار عندي هذا السؤال تلك النظرة اليتيمة التي تبدو على المتقاعد المخلص، وهو يمر بجانب عمله السابق أو «منزله» القديم، فتبدو عليه علامات الحسرة، وتظهر الآه، وعضة شفة التأسف، لا لشيء يخص التقاعد، ولا لأمر حزّ في نفسه، إنما هو الحنين، وشيء من الأصالة، والتحسر على العمر الذي انقضى سراعاً، فتخرج غصة ندم عميقة، لا يعرف كيف يفسرها حينها.
والحقيقة.. لقد مررنا بمراحل من عدم الفهم والوعي الإداري والتنظيمي وحتى القانوني في بعض مؤسساتنا، وصل حد التعسف الإداري، كأن يمنع المتقاعد من دخول مؤسسته بعد يوم من قرار الإحالة على التقاعد، والبعض منهم يمنعون من جمع حاجياتهم بأنفسهم أو الدخول للكمبيوتر الشخصي بعد تسلمه ورقة إنهاء عمله، وينيطون بذلك العمل لزميل له أو لفراش المؤسسة، بعدما يسحبون منه بطاقة دخول المبنى، ولا ندري من رسخ مثل هذه المفاهيم الخاطئة وغير الإنسانية، والتي تمس حتى الحرية والخصوصية الشخصية، هذا عدا نظرات التشفي من بعض الموظفين المريضين وظيفياً، والذين تجد بعضهم يرمي المتقاعد، خاصة المدير، بنظرات ذات شرر أو تجده يحاول التسلق والتزحلق للمدير الجديد، وينفض من يديه كل ما علق بهما من غبار المرحلة السابقة، مثل ذلك الموظف المتلون، كثيرون يسكنون زوايا المكاتب دون أن يقدموا للمؤسسة شيئاً ذا قيمة، فغايتهم نفوسهم.. وفقط.
وهناك أمر متصل أيضاً بالفكرة نفسها، وهي الإلغائية، بحيث أن المدير الجديد عندنا يجبّ ما عمل المدير القديم، ويعتبر أعماله متخلفة ولا تتناسب والمرحلة الجديدة، حتى أن البعض منهم يستهلون يوم عملهم الجديد بتغيير شعار المؤسسة، دون أن يحسب تكاليف هذه المسألة، المالية والإدارية والمعنوية، ثم يبدأ بهدم القديم وبناء الجديد، وهو عمل مزدوج، فيه التعطيل وخسارة المال والجهد والوقت، بحيث لا يراكم التجربة العملية السابقة للمدير، بل يبدأ من الصفر، وهكذا كل طاقم يأتي ليلغي ما عمل الطاقم القديم، لذا كثير من المؤسسات ما زالت في مكانها تراوح، تستقبل مديراً بوعوده، بعدما ودعت مديراً باجتهاداته، والكل بعد فترة سيذهب إلى حال سبيله نحو ذلك التقاعد والتباعد، وحدهم.. المتقاعدون المخلصون يظلون يحنّون إلى «منازلهم» القديمة!