لا أدري لِمَ كتب على الرحالة وعشاق المدن والكتّاب حب النوافذ والأبواب، لا تجعلهم يمرون دونما أي التفاتة أو توقف إجباري، وحيناً تومئ لهم أن اقرعوا بأيديكم على الأبواب، فربما هناك حكاية تحملونها في حقائبكم أو اطرقوا بأصابعكم على النافذة التي تصادفكم، فربما خلفها تقف عاشقة تنتظر فرساً بيضاء أو وردة خجلى أو شعراً يرطّب الروح، في أسفارنا بقدر ما نعشق بعض المدن، ونعشق أمكنتها، بقدر ما يكفهرّ وجه بعض المدن، نافثة شيئاً من تلك الطاقة الساحبة للعافية من داخلنا، فجأة تخيم علينا بظلالها الرمادية، فتسكت فينا شغب الطفولة والعفوية والبساطة وطعم السكر في الحلق، هي لا تفعل ذلك عناداً فينا، إنما هي طبيعتها أو ما جبلت عليه، فمدن ألمانيا مهما تجملت، وتغنجت، يبان عليها تلك الصرامة والجدية بذلك اللون الخشبي المحروق، ونوافذها المحكمة الإغلاق، وكأنها صنعت لأيام الحروب، وأبوابها تشعرك أنها لا ترحب بالغريب دائماً، والغالب على جدرانها ذلك اللون الأسمنتي المنزوع منه الرحمة والشفقة، كَريه حد الضجر، ولو قيل ما هو اللون الذي يليق بالموت؟ فلن أتردد بوصف ذلك اللون المكتئب عنواناً له، وما تدل عليه غبرة لون الغراب، لو قيل ما هو أبشع لون في الدنيا؟ فالقول إنه لون الحرائق والرماد، لون يوحي بالعدوانية المطلقة، اللون الرمادي يمكن أن أنعته باللون الخائن، لون البشاعة المستفزة، لذا يغطى بلون آخر يستره، فإما يدهن بألوان لها رونق واعتبار أو يطبع عليه ورق مخملي، زاهية ألوانه بفرح أو يُلبّس بحجر، ذلك الشيء الكتوم، لا يترك ببروزه المجافي، ولونه الداعي لحرق الحياة، ووأد زهورها الندية، ورائحة أعشابها الخضراء.
كم استبشر بجدران بيوت البحر الأبيض المتوسط، وواجهاتها البيضاء، وشبابيكها الخشبية الزرقاء، ثمة أغنية في تلك البيوت الضاحكة للحياة، يجلبها الموج، وترددها السفن الساجية على الماء، ويتذكرها كل حين بحارة جبلوا على الفرح والحركة، والمغامرة باتجاه الحياة، لا يمكنك إلا أن تتوقف عند ظليل تلك الجدران، وتلك الأشجار الجهنمية التي ترّعى بياضه بألوانها الصارخة، والباب الخشبي الساكن بلون البحر، ومطرز عليه قطع حديدية، تلك التي تبدأ بحرف البسملة أو بهجائية العين الحارسة، والخرز الذي يمنع الحسد أو عناقيد ثوم يابس طارداً الشر، جالباً الفأل، يا لجمال ودفء تلك الأبواب التي تستقبل الضيف بصريرها الخارج من الصدر، كآلة موسيقى قديمة، كم هي حارسة للأسرار وحكايات المساء، ومشيعات الأغاني للمسافرين باتجاه الزرقة والرزق، وغبب البحار، في مدن البحر الأبيض المتوسط، العاكفات كالعجائز، متدثرات بالخشوع، كقرى متناثرة على ضفافه، راكعات عند سفوح جباله، ثمة نشيد من الإغواء، ودعوات الاشتهاء، فتنساق لا تتبعك الخطيئة، ولا يسبقك غير الحب، هناك على ذلك الجدار الأبيض المشع، تقف دراجة هوائية مسلسلة، ومتكئة عليه بحذر، وهناك ظلها النائم على الأرض ككلب أمين، وهناك عجوز تسحب كرسيها القش الصغير، وتشعل سيجارتها، وفنجان قهوة يرتج في اليد اليمين، لتجلس وتستريح، وجارتها تطل عليها من الشباك المقابل، وثمة تواطؤ بنميمة مؤجلة ومشتعلة، وحديث عن ذلك الرجل المار أمامهما، يقرأ وجهه على الأرض، وهن يلوحن له متذكرات أوقات شبابه، وشعره الأسود الطويل وكثافة سالفيه، وكيف كان؛ يغزل الكلمات، ويداعب الوتر، ويرقّص قلوب الصبايا، فلا تحتمل قمصانهن ذاك الوجيب.. وغداً نكمل