قبل أسبوعين كنت في عاصمة المكسيك، وهي مدينة تزخر بما تدهش به الزوار من مأكلٍ ومشرب ومتاهات للمعرفة لا يرى السائح لدهشته مما يراه ويلمسه ويأكله نهاية. علم المكسيك الذي يعبر عن هوية أهلها وولائهم للوطن له حكاية عجيبة منبعها أسطورة حضارة الأزتك، التي كان أهلها في بحثٍ مستمر عن موقعٍ لبناء عاصمتهم، فجمعت لهم الأسطورة زماناً يكون به نسر يحمل ثعباناً في فمه، ويقف على شجرة صبار تعيش في صخورٍ تحيطها المياه، في ذلك المكان المحدد تكون عاصمتهم. في عام 1325م شاهدت قبيلة التاراحمارا ذلك النسر فتوقفوا عن البحث وشرعوا في بناء مدينة ميكسيكو العاصمة الحالية. ومن تلك الأسطورة استوحى ذلك الشعار الذي نراه في العلم الرسمي لجمهورية المكسيك وقد اعتمد استخدامه في 17سبتمبر 1968م.
قبل أيام احتفل العالم بالسنة الصينية، أقول العالم لأنها احتفالية تغير التوازن السكاني العالمي، وتعد أكبر هجرة بشرية موسمية في العالم، إذ يحتفى بها ملايين الصينيين من داخل البلاد وخارجها. ولكن ما الذي نعرفه عن تلك الاحتفالية وجذورها؟ نعود مرة أخرى إلى الأسطورة وبطلها «نايان»، وحش له رأس أسد له عينان جاحظتان وأنياب تدل على الشراسة والتوحش وله جسد كلب، هو ذلك الوحش الذي يقلده الراقصون عند ارتدائهم زيّاً يمثل رقصة الأسد، التي لا يتم بدونها الاحتفال بالعام الجديد. نايان هذا وحش يسكن قمم الجبال أو سحيق البحار، وفي الشتاء عندما لا يجد مايأكله فإنه يدخل البيوت والمزارع فيلتهم البشر والحيوانات، وتترك زيارته دماراً شاملاً في المكان.
تقول الأسطورة الصينية أن المزارعين المتضررين من زيارة نايان قرروا النزوح إلى مكان أكثر أمناً قبل ظهور نايان الوحش في ليلة القمر الجديد، التي اعتادوا على ظهوره فيها. وفي طريقهم إلى بر الأمان التقت سيدة مُسنة بمتسوّلِ ساقه فضوله لسؤالها عن سبب تركها للقرية، فأخبرته بسالفة نايان وأفعاله، فطلب منها المتسول أن يقيم في بيتها، وبالرغم من نصيحتها أصر على ذلك. في الأيام التالية عاد الأهالي إلى بيوتهم فوجدوا القرية «هباءاً منثوراً» باستثناء بيت السيدة المُسنة. تعجب الأهالي عندما رأوا أن المتسوّل قد أحاط البيت بأقمشة وقناديل حمراء وذهبية وكمية من المفرقعات. أدرك الأهالي ماهية الأشياء التي يخاف منها نايان، إنه يهاب اللون الأحمر، ولا يحب الحشرة (الضوضاء) والقرقعة، والضو (النار) التي تصدر شراراً. «وبدال الشردة تموا يتريون نايان اللي كانت الشردة عليه».
للعارفين أقول: هذه الأساطير موروث يرفض أن ينمحي أو ينطمش أو يغيب، فهناك من يحافظ عليه بالرغم من أننا نعيش في عصر الذكاء الاصطناعي والشات جي بي تي والروبات اللي يسيح عمره ويرد شرات ما كان وعصر سيري وقطعانها، إلا أن الموروث عندما يستدام يخلق عوالم من المعرفة والتسامح والرقي. أمنيتي أن يكون للموروث المعنوي استدامة وحوار مع الثقافات الأخرى، وأن يكون لها دور أكبر في حياة أبنائنا فهو لا ينقص من التعليم والمعرفة شيء، بل يعزز ويثري ويكرس القيم والمفاهيم التي نشأ عليها أسلافنا، طيب الله ثراهم.