طالما كانت زيارات مدن العارفين بالله مبتغى المسافر الذي لا يكل من تعب نهار المسافات، والبحث في قراهم الصغيرة عن تلك الأضرحة ذات القباب البيضاء والخضراء، والتي تشكل شيئاً له من القدسية في وجدان الناس، ونوعاً من دروع الحماية والحراسة المتخيلة للمكان، وملاذاً في الجدب وانقطاع المطر ورفع البلاء عن البلاد والعباد، هي زيارات كنت حيناً أراها واجبة، وحيناً كان يدفعني الفضول لها، وحيناً آخر، لأن لها طقوساً مختلفة في فترة زمنية من العام، كنت أحرص على رؤيتها، وفك أسرار دهشتها، تتساوى عندي قبور القديسين في المسيحية، وقبور كبار الأحبار عند اليهود، والكهان في الديانات الأخرى، وقبور الأولياء والأئمة عند المسلمين، كلها أماكن تفرض هيبتها، وتلقي بظلال كراماتها، ويحضر تبجيلها، حتى صارت تلك الزيارات من روحانيات الأسفار الممتعة، والتي تريح النفس، وتغير طاقتها نحو الصفاء والسكون، وتجعلها حين تغادر المكان ليست كما جاءت له.
زيارات تطارح الروح، وتسرب الرضا لها، كتلك التي تنوي فيها زيارة قبر ولي من أولياء الله الصالحين أو المكوث في حضرة صوفية أو جلسة روحانية، ينشد فيها المنشدون، ويدور فيها المتجلّون بإيقاع يهادي الروح، ويزاغي الجسد، وقد كنت شغوفاً بذلك الحضور، كلما سمحت الظروف، وكلما كانت المدن مهيأة لمثل تلك الطقوس، وأحياناً أشدّ الرحال لأماكن بذاتها حين تتزعزع ثوابت القدم، وحين تطفو الأشياء الطارئة على قناعة النفس، فأنشد رجالات كان ثوب عتيق الصوف سترهم، والمحبة نور طريقهم، والدنيا آخر همهم، غايتهم الفوز بالسكينة، وذاك الرضا الذي يجعل النفس أقرب لمسالك السماء، ومعاريج الصفاء، مثل تلك الزيارة التي كانت لقبر «محيي الدين بن عربي» في دمشق، وزيارة قبر «رابعة العدوية» في القدس، وزيارة «السيد البدوي» في طنطا، وزيارة «سيدي محرز» في تونس، وزيارة «سيدي عبدالرحمن الثعالبي» في الجزائر، وغيرهم كثير في مدن كثيرة تتوزع على جهات الدنيا الأربع، هي زيارات تسبقها أسئلة كثيرة قبل الوصول إليها، وأسئلة خلال طقوس الزيارة وهيبة المكان، واحتفاء الناس البسطاء والصادقين والأبرياء، وأسئلة بعد الزيارة، والتي ستظل تتبعك كظلك، لمَِ هؤلاء الأشخاص دون غيرهم عاشوا في المكان وفي قلوب الناس، ويلجؤون لهم في عز التعب والوجد وأحزان المدن؟ لما يتهيب منهم الطغاة، وغزاة المدن، ويخافون الاقتراب من أمكنتهم، خوف تلك الدعوة المفتوح طريقها إلى السماء؟ هل هم أسطورة حقيقية تعيش في أزمان الناس المختلفة؟ ويتراءون لهم حين الشدة والحاجة والإلحاح في الدعاء؟ هل هم من صنع الناس، وتضخمت سيرتهم من جيل لجيل، محتفين بتلك البركة التي يشعرون بها، ودفء وجودهم بينهم؟ هل هم السلاطين الحقيقيون لمدنهم، وحرّاسها من الشرور والأشرار؟ 
كانت زيارات تشهد فيها بالبركة، وبتلك الإضاءة التي تلمع في القلب، وتعني التفاؤل، ثمة طاقة روحانية لا تشك أنها من صنع المكان، ومن صنع ذلك الراقد تحت عمامته الخضراء، تحوم حوله أدعية الناس ودخان البخور والمسك واللبان، تكون في عز تأملك، وسكونك وسكينتك، لكنك لا تتخلى عن ذلك الفضول الساكن فيك، تختلس نظرات للشاكية الباكية، وهي ترفل بتلك النضارة والوضاءة، وتقول: كم هو الزمن غدار، وكم بعض الناس ظالمون، ثم تتراجع وتقول: لعلها تطلب الولد بتكبدها وعثاء وعفرة دروب الأولياء الصالحين.. وغداً نكمل.