تؤصل الثقافة النيّرة لمجتمع قائم على تقدير الإبداع وتثمين حضوره في حياتنا ويومياتنا. وفي كل معرض فني، يلمسُ الجمهور الرؤية البصرية الجديدة التي تجتاح العالم، وتحاول أن تنقل أو تغير وسائل التعبير التقليدية من خلال طرح مفاهيم جديدة وصياغات غير مطروقة من قبل في كيفية رؤيتنا للأشياء والموجودات. تحمل لنا المعارض الفنية الكثير من هذه المفاهيم والاجتراحات التي تتعامل مع كل المواد باعتبارها أدوات قابلة للتشكّل من جديد، والدخول كمادة تسهم في صناعة الفن. والملفت حقاً، أن الفنون وخلال بضع سنوات، لم تقف عند حدود تجاوز اللوحة الكلاسيكية، وإنما أصبحت جزءاً من عوالم الإبداع الافتراضي والميتافيرس، بما يجعلنا أمام أفقٍ مفتوح على التجريب إلى ما لا نهاية.
وما تبثه هذه الفنون والمعارض، يتطابق إلى حد ما مع الأفكار والرؤى التي يقدمها المثقفون والشعراء والفلاسفة الذين ينادون بضرورة إدخال عنصر «التجديد» في المادة الإبداعية، وعدم الركون إلى الصيغ الجاهزة لكونها لا تُضيف شيئاً للكاتب نفسه وأيضاً للمتلقي. إذ يبقى التجديد لبّ كل إبداع وغاية كل تنوير ثقافي. وما يميّز فناناً عن آخر، هو تلك القدرة على تجاوز المفاهيم العقلية السائدة والخروج لنا بلغةٍ فنية بصرية أو أدبية تحملُ في مضمونها رغبة الاكتشاف كبعدٍ مستقبلي، ورغبة التحرر من أسر الجاهز وسطوته القديمة. والأهم هو التعبير عن الذات باعتبارها ذاتاً ترى وتشعر وتحس وتفكّر بحرية. هكذا تصبحُ الفنون والآداب خط المواجهة الأول ضد التخلّف والجهل والتحجّر. وإذا حضر الشعر في يومياتنا، فإن بحوراً من خيالٍ تتفتح لنا في كل لحظة. وإذا التفتنا هنا وهناك، وكانت الأعمال الفنية حاضرة في مشاهداتنا اليومية، وكانت الموسيقى الراقية ترافقُ مسامعنا، فإن الحياة تصير عرساً فاتناً، ويتجمّل الوجود بنا ونتجمّلُ به.
تدخلُ الثقافة في نسيج الحياة، فتضفي عليها معاني قد لا يشعر بها كثيرون. الشجرة التي نمر عليها كل يوم وهي صامتة على الرصيف، قد تُصبحُ أماً للعابرين في قصيدة شاعرٍ حذق. والزوايا والظلال التي تتداخل في لهاثنا اليومي، يأتي الفنان ويرصدها في اللوحة ويشدّنا للانتباه إلى التفاصيل. وكم من سيرةٍ لأمم أو أفراد كانت ستموت، لكن الرواية خلّدتها وأعطاها المسرحُ وجوداً وحضوراً. وأن يعيش المرء في حديقة هذه الإبداعات الجميلة، وأن تسكُنه هذه الخيالات، فإنه لمحظوظ حقاً، لأنه ببساطة يصبح الشاهد الأهم على روعة الحياة وسموّ معانيها.