يتجاوز الشعر نمطية التفكير السائد عن طريق هدم أسس التعبير التقليدية واقتراح اشتقاقات وأساليب جديدة. ليس فقط في منظومة الكتابة والكلام، وإنما في مدى قدرتنا على رؤية العالم من زوايا غير مدركة وغير محسوسة. وهي وظيفة يختص بها الشعر وحده، كونه يملك القدرة على تشكيل العالم بكل الأدوات الممكنة وأهمها عنصر ودلالات المجرّد التي تحملها الكلمات فقط. ومن خلال هذا الكم اللانهائي من الدلالات واشتقاقاتها وما يتولد من التراكيب والصور بين الحسّي والمجرد، يصبح الشعرُ حاضن المعاني المفتوحة على كافة الاحتمالات. إذ، حتى لو ذهب الناس إلى تحديد اللغة وتأطيرها في عبارات المنطق، يظل هؤلاء بحاجة الى التعبير الشعري. نلاحظ ذلك في الفلسفة على سبيل المثال. فبينما يظن الناس أن الفلسفة هي لغة المنطق والعقل، نجد أن الفلسفات في جلّها إنما استعارت الكثير من الشعر لتقدم نفسها. ولعل الفيلسوف نيتشه أكبر مثال على ذلك، وقد سبقه ولحقه كثيرون كانت لغتهم (المنطقية) لغة شعر.
مع ذلك، يبقى الشعر شيئاً مختلفاً تماماً عن الفلسفة. إنه في العمق تجاوز قصدي لأي شكل من أشكال التقيّد بنمطٍ أو أسلوب أو طريقة تفكير. وما يحدث داخل عالم القصيدة من تشعبات وانفلاتات وبزوغ صور غارقة في ذاتيتها وأيضاً ما يتكوّم من غموضٍ ولبسٍ، هو أصل الشعر. في القصيدة وحدها يمكن للشعر أن يجعل الحياة والموت يتحدان أو يفترقان، وفي النص الشعري وحده، يمكن للمتناقضين أن يتآلفا أو يلعب كل منهما دور الآخر. وبحريّة مطلقة يمكن للشاعر أن يمد يده اليمنى في شرق الأرض ويغرف من رملها جمر البدايات المنسيّة. ويمكن، بيده اليسرى، أن يطبطب على رأس جبلٍ حزين فتتبعه الذئاب وتعشقُ غنائه غزالة الوادي.
الشعر إذن، في غاياته القصوى، هو فعل حريّة لا تُدرك إلا في القصيدة التي تتجاوز نفسها. أما القصيدة التي ترهنُ نفسها للرتابة والتكرار والهشاشة، فهي تأصيل لقيد الشعر وحصره في النمط الجاهز. والحرية في أصلها كفكرة، لا بد أن تنتمي للشعر وحده. لهذا الكائن الذي يتجاوز مفهوم الجسد والمادة والحدود والأسوار. وحين يكتب الشاعر قصيدة حرة، فإنه بشكل ما، يحرر الواقع من محدوديته، ويحرر القارئ من الركون إلى قبول الممكن. بينما في الوجود، وفي الخيال الذي يتمتع به البشر، يكمن وجودٌ آخر لا تحده جهةُ ولا يؤطره الزمن.