من اعتاد السفر يظل يبحث عن أسباب للسفر أو ينقب عن مسببات للارتحال، المكوث يضيق بنفسه، ويجعلها مثل الأسيرة لجدران متراصة رطبة، ووجوه تفرض تعبها عليك، أحياناً تقول سأقوم بمكافأة نفسي بقضاء يومين في فندق لكي أغتسل من ساعات الجلوس الطويلة، لأنك لا تقدر على السفر، رغم حاجتك التي تمنعها الظروف، وأحياناً أخرى تقول: «ألعن أبو الفقر.. أشخط هالكروت، ولا يردّك إلا رأسك، ترا نصف المئة خمسين»، فتشرّق أو تغرّب ولو لأسبوع يعيد لك توازن النفس والأمور، فتترك من أجل ذلك السفر القصير كل الأشياء تتصدع وتتداعى، فليس أجمل في هذه الدنيا من أن تكون صديقاً موداً ومحباً وصدوقاً مع نفسك، لكنك في نهار بارد مثل نسمة آتية من نخيل العين في أول تباشيره وأول بزوغ فجره، تنهض من نومك، وتتلقى خبراً من مسعدات الحياة الصباحية أن هناك رحلة تنتظرك، تكون أنت قد بلغت حد تعبك وهموم يومك، تطارد الوقت، وتريد أن تسبق الأشياء، تريد فقط أن تتنفس برئة خالية من مضجرات اليوم، وتفاصيل صغيرة تورث ليناً في العظام، وحين تأتي مثل تلك الرحلة كمكافأة سماوية، لا تريد أن تعرف الوجهة، ولا طبيعة المكان، هو سفر لغاية السفر، وهربٌ من ضيق المكان هنا، لأفق المكان هناك، فكيف والرحلة من تلك التي لا تدري بحقيبتك، ولا شيئاً عن تذكرتك، وكل شيء فيها يمشي بمقدار، ووفق معيار، ولا «بتحاتي العشاء، ولا من لفى»، ووسط جمع، وصحبة لا يكفي دمع العين لفراقهم، وليتها لا تبكي فيهم أحداً أبداً.
هكذا كانت الرحلة إلى مدينة «بدروم» التركية، وشواطئها الزرقاء، وتلك الجزر المتناثرة، والجبال الخضراء، يطوف بك يخت «أبوظبي 5» في أول تنهيدته وهو يصافح الأزرق، وهدهدة البحر له في أول تمطيه وتدلعه، تلتفت يمنة فإذا بتركيا على اليمين، وتلتفت يسرة، فإذا باليونان عن الشمال، وتريد أن تفعل شيئاً، فلا تجد غير أن السعادة حاضرة، وتكتفي بذلك التأمل، وهدهدة ذلك المركب الملوكي، فتستحضر كل ما هو جميل لحظتها، وتتمنى لو أن الوقت يدوم في «بدروم»، ومن مرسى إلى رصيف إلى مرسى، تنتقل محتضناً الفرح، وتلك اللحظات التي تتمنى لو أنها لا تنشد الهروب في آخر أوقاتها.
في البحر، وذلك البساط الأزرق الممتد حد نظر العين، تضيع منك كل مناكفات اليوم، فلا تتذكر أحداً بأذى، ولا ترجو من أحد رجاء، أنت ونشيد البحر، ودفء الفضاء، وظل السماء، وتتفكر كم هي الحياة أجمل، والدنيا أسعد من غير شر، ولا تبييت ضر، ولا خلق الكراهية، وصنع الجفاء، وما يضجر النفوس التقيّة.
في البحر يكون القلب للإيمان أدنى وأقرب، وتكون العين من البصر للبصيرة أدنى وأقرب، وتكون الحواس من الصدق والأمانة والصبر، وفعل الإحسان أدنى وأقرب، ويكون العقل للتفكر والتدبر والخشوع أدنى وأقرب، أي سر في هذا الأزرق، وأي سحر للصمت، وعطر للكلمات، وأكثر! يعرّي الإنسان، فلا يكون إلا الروح، والنور، والجوهر.
لا الصباح هو الصباح، ولا الليل هو الليل، أي فيض، وأي تداعيات تحضر، كلما توغل بنا المركب نحو زرقة مظلمة، نودع شمساً في مغربها، ونستقبل شمساً في مشرقها، والجهات أفق، ولا تنتهي المسافات، هي المرافئ التي تجبرك على التوقف عن الصهيل، ومناغاة الريح، هي وحدها من تجعلك تحبس دمعة على فراق الأشياء، ودفء الأمكنة، وساعات قبض السعادة بأطراف الأصابع، وحدها التي تجعلك تشعر بذلك الإحساس قبيل المغيب بيتم الأمكنة، وهروب الليل داخل البيوت، والشعور بالوحدة الباردة التي تأتي وحدها من دون المطر.
ليس أجمل من رحلات البحر التي تهزمنا وحدها في السفر، والتي يمكنها وحدها أن تأخذك منك وعنك، وتهرب بك من نفسك إليك! وغداً نكمل..