كان ذاك اليخت يجوب تلك الجزر السابحة في بحر «إيجه»، وكأنها عذارى الحكايات المنبعثات من غمام الوقت، يستعرضن غزل الماء، لا شيء يجعلك سابحاً في روحانيتك مثل التقاء الماء بالسماء، وأنت على كف الأزرق، أو ملامسة الماء الجسد لحظة قشعريرة السعادة، على مرسى «بدروم» ستكون استراحة ذلك المهر المائي، و«سيبندر» فيها ثلاث ليال طوال مما تعد تلك المدينة التركية المذهلة والتي كانت تعرف قبل الميلاد باسم «هاليكارناسوس» باليونانية، أما اسم «بودروم» الجديد فآتٍ من اسم المدينة في العصور الوسطى «بترونيوم»، ومن قلعة «بودروم» التي كان يتمركز فيها الفرسان الصليبيون؛ فرسان الإسبتاريه أو فرسان القديس يوحنا، الذين استولوا على أحجار ورخام أجمل ضريح، كان يعد من العجائب، لبناء قلعتهم، وهو «ضريح موسولوس» الذي أخذت منه معظم اللغات كلمة «Mausoleum» والتي تعني الضريح.
هذه المدينة البحرية لم يرها أحد إلا وأعجب بها، ولا تدري أي سر يكمن فيها، غير تلك الخلوة التي يحيطها السكون، وركود البحر، وشمس لا تتوارى خجلاً من البقاء حتى تنعس جفون آخر الصيادين، هل مطاعمها الفاخرة بشتى أنواع الطعام والشراب ولذائذ الفاكهة، أم هي تلك الصحبة التي يتآمر فيها الأصدقاء على المتعة والذهاب لآخر مدى، قابضين على وقتهم، وما يفرحهم؟ مثل ما كان يفعل أصدقاء «السفر الأزرق»، أصدقاء الكاتب والروائي والرسام التركي الشهير، سليل العائلة العثمانية العريقة «موسى جواد شاكر»، الذي ظل يحمل اسماً أقرب إلى اللقب، «خليقرناس باليقجيسي» وتعني بالتركية: «صياد السمك من هاليكارناس»، وهو الاسم القديم لـ«بودروم»، وذلك بعد نفيه إليها، والتي عشقها حد الهوس، كان أصدقاء «السفر الأزرق» يجوبون البحر، لا يحملون أي أداة ترفيه مطلقاً، لا راديو ولا صحفاً، فقط هي صرة فيها: «الأجبان والماء والبقسماط والتبغ ومشروب العرقي» للبحث عن تلك الصوفية المعرفية الغائبة.
كذلك كان من أبنائها «هيرودوت»، المؤرخ الإغريقي العظيم الذي عاش في القرن الخامس قبل الميلاد، كانت بالنسبة لي مدينة مجهولة، لولا ذلك المركب الذي أخذني إليها فجأة، ومن دون ما موعد، فقط هي الصدف حين تعترض طريقك كنسمة باردة أو ظل شجرة حانية أو رائحة عطر تقبض على ساعديك، وتكتفك بسحرها في المكان.
لقد أدركت لماذا يصحو الصيادون فجراً في مدنهم؟ للبحر القريب، ولموجه الآتي من بعيد هدهدة السرير، فيغلبهم النعاس باكراً، وتشبع رئاتهم من نسائمه، فيبكرون نحو رزقهم الحلال، وهم ينشدون، طارحين همومهم على السيف، حين يمتطون الأزرق، وقلما يخيب نهارهم ذاك اليوم، وحين يعودون تسبقهم الأغاني، وفرحة طعم الرزق الحلال.
كان أسبوعاً جميلاً ومفرحاً على ذلك البساط الإلهي الأزرق، فبعض الأماكن تجعلك سعيداً، وبعضها الآخر يخبئ لك السعادة لأيام أُخر، «بودروم» تعطيك إياها دفعة واحدة، ومن أول لقاء، تبدو واضحة مثل بحرها السارج متن هذا المدى، يلوح لبعيد أن يقترب، ليطعم شيئاً من يابسته، ولا يحب أن يودع قريباً منه، سيذهب بعيداً عن مرفأه وزرقته.
بعدها.. بسنوات قلائل قلت لأجرب تلك المدينة، وأرى أثرها في نفوس الأبناء وهل سيعشقونها كعشق أبيهم لها، لم تخب تلك المدينة حدسي، فقد ظلت تفرح الأولاد طوال أيامهم فيها، وغنت لهم في عيد ميلاد توأمي الروح، أغنيات البحر والموج وزهو المراكب الغادية، وأسعدت البنت الكبرى بمزاجها الذي لا يعرفه أحد مثل أمها، واستمتع ذلك الصبي الذي يحب اليخوت واللون الأزرق منذ صغره بقيادة أول يخت كهدية وتحقيق أمنية في عيد ميلاده.. هكذا هي «بودروم» لا تجعل أحداً يغادرها من دون أن تطبع على خده قبلة دافئة، لتقول له: «ليتك تعود»!