ما تميز «الفيلسوف» جوارديولا عن كل أقرانه من الذين يلتقيهم محلياً في الدوري الإنجليزي، أو أوروبياً في دوري الأبطال، في حوارات كروية تسمو بالذوق، وترتفع بالأداء لدنى الجمال، وما ارتفع «بيب» قليلاً في فضاء الإبداع والابتكار، إلا لأنه ينشغل أكثر من غيره بالجزئيات الدقيقة، بما يصطلح عليه في القاموس الكروي «التفاصيل الصغيرة».
هذه التفاصيل التي تصنع في العادة الجوهر، ينشغل بها جوارديولا، حتى أنه يدمنها في كل خلواته التي تقوده إلى إبداع أنماط جديدة في منظومة اللعب.
عندما سقط مانشستر سيتي الموسم الماضي في نصف نهائي دوري الأبطال أمام ريال مدريد في موقعة دراماتيكية، وقف الجميع منبهراً بهذا «العفريت» الذي يسكن ريال مدريد فيجعله بسبعة أرواح، بينما اخترق جوارديولا جدارات الدهشة، ليقول بتواضع الفلاسفة: «إنها كرة القدم، إن عرفنا فيها شيئاً، غابت عنا أشياء، اليوم تعلمنا شيئاً جديداً، وقفنا على تفصيلة جديدة، وعندما سنعود في العام القادم إلى حدائق الأبطال، لن نلدغ أبداً من نفس الجحر».
وما شاهدته من مانشستر سيني في جولة ذهاب ربع نهائي دوري الأبطال، وهو يهزم العملاق البافاري بثلاثية نظيفة، في قمة الصدمة والاستعراض، يقول بمطلق الأمانة إن بيب جوارديولا تعلم الشيء الكثير من درس ريال مدريد، وقدم نسخة من «السيتي» تعانق الكمال الكروي في استلهام روح الجمال، لتقديم عرض ولا في الخيال.
شاهدت «السماوي» بتنظيم دفاعي خرساني تنزل فيه الستائر الدفاعية، وترتفع بشكل سيمفوني لا نشاز فيه، وشاهدت رجلاً يحضر في وسط الميدان، فيرفع القواعد ويمد الجسور ويحقق التوازن المبحوث، وما كان ذاك الرجل إلا الجبل رودري الذي سيرى منه الوسط البافاري ما لم يكن يتوقعه، بل إنه يسكن في مرمى حارس البايرن كرة تشع بضوء مبهر، لتكون هي الهدف الذي أنبأنا بقدوم النيازك، التي التحمت بالمطر، وتشكلت لوحة هي السحر بعينه.
وكان لابد لهذا السيتي المستأنس باحتكار اللعب وامتلاك الكرة، أن يجد من يضع بيض الدهشة في السلة، فجاء هالاند رجل «الفايكينج»، ليجد وسط الجليد معابر سحرية.
هذا ما كان يعنيه جوارديولا بالتفاصيل التي تساعد على بلوغ الجوهر، ووجد الجوهر في دفاعه الخرساني وفي سقائه الرائع رودري وفي هدافه الجديد هالاند، كما وجده في التحوير التكتيكي الذي يقبل بالتنازل مؤقتاً عن ملكة الامتلاك لربح رهان النجاعة والواقعية.
بايرن ميونيخ الذي أعاد باريس سان جيرمان إلى قاعة الدرس، لتعلم فنون العرض على مسرح الأبطال، هو الذي اختنق شريانه باستاد «الاتحاد»، بسبب أن «السيتي» وفيلسوفه جوارديولا قالا ببساطة للربان الجديد للبايرن: «التفاصيل الصغيرة تمنحك الحقيقة في النهاية».
وحقيقة الثلاثية أمام «السيتي»، أن «البافاري» جاء إلى حفل الأبطال متأخراً.