شعرت بالارتباك عندما استدعاني مدير التحرير، وعلى الرغم من لطفه الشديد، إلا أنني وطيلة فترة عملي الطويل نسبياً في الصحيفة في ذلك الوقت كنت أجهل تماماً مكان مكتبه. وكنت ألتقيه صدفة في صالة التحرير، فقد كان عملي في قسم الدراسات والبحوث الذي يعد صومعة منفصلة. 
بدأت حالة الارتباك تنجلي مع تزايد أسئلة المدير حول أفكار ومصادر مقالاتي المطولة «العالم.. امرأة» التي بدأت تأخذ طريقها ببهاء في الصحيفة بشكل أسبوعي. وعندما أنهى حديثه طلب مني المصادر التي اعتمدت عليها في مقالي الأخير، والذي كان حول شخصية سياسية ألمانية! بالفعل هرعت إلى مكتبي وحملت معي ملفاً امتلأ بالأوراق التي طبعتها من مراجع مختلفة (كتب، مجلات، مقالات باللغتين الإنجليزية والألمانية) مستخدمة قلم (هايلايت) على كل سطر استعنت فيه لكتابة مقالي، ووضعتها بكل ثقة أمام المدير. استدعاني الرجل بعد فترة وأثنى على عملي وقدم لي مساحة لكتابة عمود في الصفحة السياسية «شواهد»، وكان ذلك بداية كتابة العمود الأسبوعي في الصحيفة.
المثير في الموضوع ما عرفته لاحقاً حول سبب ذلك الاستدعاء، فقد كان وراءه كبير المترجمين في الصحيفة وكان في ذلك الوقت رجلاً خمسينياً مُحنكاً يقدره الجميع، وقد أثار شكوكاً حول مقالاتي كونها تتطرق لشخصيات نسائية معاصرة -من مختلف بقاع الأرض- لم يكتب حولها سابقاً باللغة العربية أو حتى الإنجليزية! في البداية شعرت بالغضب لتشكيكه في عملي، ولكن سرعان ما غمرني شعور بالرضا والزهو والانتصار ما أزال أشعر به كلما تذكرت الأمر. فبالنسبة لي، وخصوصاً كوني باحثة كنت على قناعة تامة بأن كثرة المراجع وتنوعها يثري المادة المكتوبة، ويجعلها ذات قيمة. وكان أسوأ ما واجهني في عملي الصحفي عدم قدرتي على التعريف بمراجعي ونشر توثيقها مع كل عمل أنجزه، فقد كان جمعها فقط عملاً شاقاً مجهداً فما بالك بترجمة بعضها وبلغات مختلفة -موقع غوغل للترجمة كان قد ظهر للتو- ومن ثم تحليلها وإنتاج مادة جديدة منها، وقد كانت شكوكه فرصة ليعرف الجميع ذلك.
كانت الرحلة عبر تلك الأوراق أجمل ما في عملي، ولحظة الوصول إلى المعلومة المطلوبة أكثر جدوى لديّ من لحظة إنتاج المقال نفسه، فيما كانت فوضى البحث والترجمة والاختيار والربط والاستغناء أكثر جاذبية من اسمي الذي يذيل بالمقال المنشور. كان شعوراً فريداً ومثيراً ما أزال أختبره مع كل جهد بحثي يتبعه إنتاج مكتوب. استرجعت تلك الحادثة التي مر عليها ما يقارب العقدين وأنا أتابع ذلك التحول الكبير في الذكاء الاصطناعي وقدرة (chatgpt) على كتابة المقالات والدراسات في ثوان، وتساءلت عن متعة الرحلة المفقودة، وعن ذلك المسكين «كبير المترجمين» كيف كان سيتحمل شكوكه أمام كل ما سيقرؤه!