ما تعدونه اليوم بعيداً وغريباً، سيصبح بعد سنوات قريباً ومستغرباً، وبعد سنوات سيغدو واقعاً نعيش معه ونتعايش، هو جزء من تفاصيل حياتنا إن لم يكن الشيء الأهم فيها، وسيصبح البشر وحيدين بعدوانيتهم وغضبهم وضجرهم وأنانيتهم وحسدهم، وغيرها من مشاعر الكره والحب التي تميز الإنسان، وتجعله مختلفاً على هذه الأرض، قد تثيره تلك الصفات وقتها، لكنها هي ملح الحياة التي يعيشها دوماً قبل أن تدخل الآلة، وتدخل العقول الإلكترونية والذكاء الصناعي، وتتدخل في حياته المستأنسة، السؤال هل سيأتي وقت يتقاعد فيه الإنسان مجبراً لتحل محله الـ«روبوتات» المصنعة وفق حسابات ومقاييس وضعها الإنسان نفسه، وقد تفلت من يده إن تطور هذا الإنسان الآلي من ذاته، وخدمه ذكاؤه الصناعي في تطوير قدراته حتى خلق الأحاسيس الإنسانية أو التقارب معها أو محاولة أنسنة نفسه.
ذكرني ظهور «ماسك» مع دميته التي يقال إنه عقد قرانه عليها، والتي ابتكرها وفق مواصفات خاصة، وضع فيها جماليات ما كان يراه ويحبه في النساء، لكنها خالية من نكدهن، ومتطلباتهن، وضجرهن، وأحياناً من خفة عقولهن وسذاجتها، عروسة «ماسك» هي جارية ولكن بمفهوم رقمي وصناعي وذكاء خارق في تلبية كافة الأمور التي يطلب منها دون تعب أو ملل أو ضجر أو غضب، وأتذكر هنا قبل عشرين عاماً بالتأكيد، فيلماً من الخيال العلمي شاهدته، الآن غاب عني اسمه، لكن قصته ما زالت عالقة في الرأس، وكان يناقش قضية مستقبلية، كنا نحسبها حينها بعيدة ومستحيلة لكن السنوات بدأت تجعلها قريبة وقابلة للتحقق عاجلاً أم آجلاً، قصة الفيلم أن هناك عالماً في البرمجيات فشل مشروعه العلمي الذي كان يبني عليه الآمال، وأصيب بكآبة شديدة جعلته يعتزل الظهور واللقاءات الاجتماعية، حتى حدث بينه وبين زوجته شقاق، فقرر أن يعتزل في بيته الريفي، ولا يخالط أحداً، وفي لحظات الملل الكثيرة بدأ يعبث بأجهزته الحاسوبية، ولأنه يعيش وحيداً، قرر أن يصنع المنزل الذكي بالمفهوم الحديث، فبرمج الستائر على شروق وغروب الشمس، والأجهزة الكهربائية المطبخية برمجها لكي تتلقى أوامرها صوتياً، وكذلك النوافذ والأبواب والإضاءة، وبعد فترة من تلك الحياة المنظمة والمنضبطة والسهلة، بدأ يدب في نفسه الملل، والشعور بالوحدة، فقرر أن يبتكر أنثى إلكترونية تساعده في البيت ويتحدث إليها في ضجر عزلته، وتنفذ تعليماته في تنظيف البيت في غيابه وترتيب مكتبه، وتطبخ له ما يطلب منها من أكلات، وبعد مدة صارت العلاقة بينهما فيها كثير من الود، وبدأ يستلطفها، بحيث إذا ما تناول عشاءه، طلب منها أن تجلس قبالته، ويتبادلان الحديث مثل أي صديقين، وبعد مدة لاحظ عليها بعض التغير في التصرفات، وظهرت في غير ما هي مبرمجة لأجله، صار الذكاء الصناعي لديها يتطور بطريقة متسارعة، وتحاول أن تتأقلم لتكون أقرب لأي امرأة، وظهر لديها شيء من الشعور الإنساني، وردة الفعل والتأثر العاطفي، متى اكتشف ذلك، حين ظلت زوجته القديمة تتصل لتطمئن عليه، ويكون جواب الأنثى الآلية فيه ضجر في الصوت غير عادي، ولا مبرمج، ثم تحول لغضب وإقفال «السكة في وش المدام» على رأي إخواننا المصريين، حتى شكت الزوجة أن عند زوجها امرأة تعيش معه، وأتت لاستبيان الأمر كغيرة نسائية، ولكي تحسم الأمور، ولترى أحوال الزوج المعتزل المنعزل، وحين جاءت والتقت الأنثى الحقيقية بالأنثى الآلية، وصار ذلك الحوار النسائي بالعيون، طفرت دمعة من عين الأنثى الرقمية، فقرر الزوج أن يعيد برمجتها لأنه شعر أن هناك أمراً خطيراً قد يحدث، مثل تناول سكين من المطبخ وطعن الزوجة انتقاماً لغيرة لم تكن محسوبة، ولا مبرمجة، حينها قررت الأنثى الرقمية بذكائها الصناعي الذي تطور من تلقاء نفسه أن تحطم البيت بطريقتها العكسية للبرمجة، فتصافقت الأبواب، وتحطمت النوافذ، والستائر بدأت في الصعود والهبوط والإضاءة تشتعل وتنطفئ، وكل أدوات المطبخ تشتغل، وتركت البيت «طامحاً» نحو لا أفق، ولا اتجاه، ولا بيت أهل يعرفونها!