هناك أصدقاء جميلون في حلهم وترحالهم، في حلهم كل يوم يشعرونك أنك مسافر معهم، وفي ترحالهم يشعرونك أنك طائر تحوم معهم وبهم، وقد ترافقت مراراً مع صديق من أولئك الأصدقاء الجميلين، كانت آخرها سفرة إلى الصين وماليزيا وتايلند وإندونيسيا وفيتنام وسنغافورة، وكان يمكن أن تمتد إلى كمبوديا وبروناي، لكن «قِصَرّنا من الخريدة»، وآثرنا الرجوع مع آخر نقد في الجيب، لأن صديقي لا يؤمن بالبطاقات الائتمانية، ودائماً جيبه عامر وممزور، وفلسفته واضحة: حين تذهب إلى أوروبا أو أميركا استعمل هذه «الكروت اللي تتخقق بها، إلا إكسبرس، وإلا بلاتينيوم، وإلا كولد إيليت»، لأنك حتى لو زرت قرية في جبال الألب أو «كانتين جنود المارينز» في الباما فلن تغلب، ولن ترى سوء الظن من الجانب الآخر الذي تتعامل معه، أما بلدانك هذه فلا شيء يمشيك مثل النوط، يشعرونك أنهم فاتحون دكاكين طارئة، ولا شيء دائم، ولا يتعاملون مع البنوك إلا للتسهيلات المصرفية المجبرين عليها.
هذه البلدان التقليدية تشعرك وكأنها مثل مطعم شعبي في زقاق ضيق، يبدو مفتوحاً على الرصيف، ووجبته المشبعة كلها بما يساوي عشرين درهماً، وحين تشبع وتهم بالمغادرة منه تجد الحاج جالساً على عتبة دكانه، و«فلوسه في ثبانه»، وأنت تريد أن تمد له «كرتاً بلاستيكياً» بعد ذلك الشبع الذي لاحظه الحاج، وكان ممتناً لذلك، صديقي.. ما تمشي مثل هذه الأمور، فلكل مقام مقال، وكاد يقنعني، خاصة حين ينظر لي من خلف نظارته الطبية، بعد أي معاملة تجارية، ويصدق في قوله، بعد ما تبين سِنّة التاجر الإندونيسي الخلفية فرحاً بملامسة النوط، فعلاً بعض الناس يشعرك بذاك الغرام المتبادل والحالم حين تفرك أصابعه ورقة النقد، ويكاد يشهق إن كانت جديدة، وفيها رائحة المصرف المركزي المركزة، وكم تجلب له العبوس ورقة النقد المتغضنة التي تكاد أن تتهتك من رطوبة تعرق اليدين! هناك مكانان لا تحبهما النساء خاصة، الدفع فيهما بورقة كبيرة، تجنباً لأن يرجعوا لهن الباقي أوراقاً ذابلة، وفيها دبق المحل الذي يشتغلون فيه، مثل محل الجزارة أو محطة البترول. 
على الرغم من متعة السفر مع هذا الصديق إلا أن له ذلك الخيال القاتل، وهو أكثره توهماً، وأكثره مع الحوار المتبادل بين الإنسان ونفسه، كأن يخاف أن يسقط في مكان سحيق أو يخاف أن يسقط عليه شيء من عل، يعيش التلفت والحذر والحيطة والتوثب، تلك المخيلة التي تسيّر يومه، ويستمتع بالقيام بها، فهي سلوته، لكنها مصدر قلق للذي يمشي معه، دائماً يخشى الموتة المجانية التي لا تخطر على بال، فإذا ما استظل فيء شجرة، وسمع فجأة أغصانها تحركها الريح أو جذعها يئن من السنين، قال: تصور وأنت جالس مستمتعاً بالهواء العليل، ينخرط غصن حطب يابس منها، ويهوي على أم رأسك، وإذا ما مرت شاحنة بقرب سيارته، تذكر أنه يمكن أن يكون سائق تلك الشاحنة أرعن أو عاملاً متعباً، ولا يتلقى أكلاً مغذياً، ولا يحظى بنوم كاف، فينفلت من يد المسكين زمام السواقة في لحظة غفوة، وتعترض الشاحنة طريقك، فإذا هي تتمايل عليك بما شحنت، وتكبس سيارتك بما حملت، فإذا أنت والعصيدة سواء.. تمشي مع ذلك الصديق وأنت تتعوذ من الشيطان الرجيم، وتتحوط بالمعوذتين، قل أعوذ برب الناس، ورب الفلق.. وغداً نكمل.