لا شك أن بعض الأصدقاء خلقوا للسفر، بهم تكون الأماكن أجمل، والمسافات أقصر، نهاراتهم مشبعة بالمعرفة، ومتعة التجوال، ولياليهم غارقة في سبحانياتها، يستدعون الليل وتجلياته، فرقة جاز في أطراف المدينة، يهدهدون الظلمة الزرقاء، راقصة فلامنجو في بيت قرطبي قديم، تنفث سحرها وعرقها في مساء ذات صيف، عازف ساكسفون مسندٌ ظهره على حائط بارد يكفكف دمع المساء، مطعم فاخر يشعرك كم هي الأشياء مغرية في الليل، ميزة صديقنا صاحب الأحلام القاتلة أو أفلام المخيال العلمي، أن ذهنه دوماً يقظ، ويفلسف الأمور، ويربطها بالكون والطبيعة الإنسانية، كثير من هذه الأمور واضحة بالنسبة له، وأشياء كثيرة في الدنيا حسمها مبكراً، بلا رجعة ولا توبة، لكنه لا يترك عنه ذاك الخيال السابح كغمامة تظلل رأسه، مثلاً كأن تكون معه في رحلة جوية، وبعد انقضاء إجراءات المطارات التي يكرهها حد الغثيان، مثل الذي يسحب نعشاً، ودائماً ما يتمناها وإجراءاتها أن تكون سهلة مثل الركوب في حافلة عامة، المهم ما أن يرتخي قليلاً حتى تأتيه الوساوس فجأة، فيعمل للطائرة المتوجهة بحفظ الله وسلامته، بقيادة الكابتن «ماكنري» إلى مطار «هيثرو» سيناريوهات عدة، فلا يستبعد الخطف والإرهاب، ولا يستبعد الأعطال الفنية، خاصة إذا كانت الطائرة مقلعة من مطارات دول فاسدة، وتحب الـ«كاش موني»، حيث لا توجد مسؤولية تجاه الإنسان، ولا مساءلة قانونية تجاه الأخطاء، ولا يستبعد حتى الأخطاء الإنسانية التي يقع فيها الطيارون أنفسهم بعد ساعات طيران طويلة، إذ يشعرون بالملل والإحباط، وينهون مستقبلهم الوظيفي في الجو حيث قضوا فيه أكثر مما قضوه على الأرض، مرات كثيرة يكون في مطعم فاخر، ويرى وجه نادل لا يرتاح له، فيشعر أنه تشاجر مع المدير مرات عدة، ويعيش في ظل توتر عائلي، ويمر في نفس الوقت بضائقة مالية، نتيجة متطلبات الزوجة، فيقوم النادل في ساعة جنون، ويلوث الطعام بأي ميكروب أو يلوث المشروب بقطرات من بوله الساخن انتقاماً من المحل وصاحبه، كل هذه الأمور يعدها من الممكنات، ومن تداعيات الضعف الإنساني، يكون في مقهى ويدخل واحد أصهب من سواقي الدراجات النارية ذات الصوت العالي، وزنده كله وشوم خضراء، وعاقد شعره مثل ذيل الفرس القزم، ورابط رأسه من غير وجع، ومثل هذا أكيد سكران من أول أمس، ويريد أن يتشاجر لعدوانية فيه ظاهرة، فيقوم ويكسر زجاجة ويهدد بها، ثم يتناول زجاجة ممتلئة ويرمي بها نحو رؤوس الزبائن الغافلين، وأول رأس مرشحة لسيل الدماء رأسه الحاسرة، والجاهزة باستمرار.
تمر إنجليزية لطيفة من الأوليات اللاتي يشبهن فتيات الريف الإنجليزي، بذلك الفستان الفضفاض المرسوم بالورود، ورائحة صابون اللافندر البرّي تتبعها، وهي تنزه كلبها المدلل على الرصيف، فيتخيل أنه كلب مسعور، ويمكن أن ينقض في سهوة من صاحبته التي هي مستمتعة بمضغ العلكة على ربلة أو بطة رجله التي تشكو التشنج باستمرار، صديقنا يحب ألا يمر بجانب بناية تحت الإنشاء، فلا يضمن ما يمكن أن يتساقط عليه منها، خاصة وأن جل العمال لدينا غير مهرة، وآتون من بلدان مكتظة بالسكان، يعني «نفر واحد ناقص ما في مشكلة»، وأقلها أن ينفلت «الكرين» بما يحمله من خرسانة أسمنتية جاهزة الصنع عليه وحده، تماماً مثلما يخاف ويحلم من الخوف دائماً أن أحداً ما سيدس مخدرات في ثنايا حقيبته المسافرة معه، ولن يعرف ما يقول حينها، وهذا هاجس مزعج ربما يصحو عليه في مناماته، ليحمد الله بعدها أنه في الفراش، وليس المطار. 
تحية لكل أولئك الأصدقاء الجميلين في كل جهات الدنيا الأربع، والذين يلونون حياتنا في حلهم، ويصحبوننا بودهم ووردهم في سفرهم، جاعلين الأشياء والأماكن دوماً أجمل، ومسافات المدن والطرق دائماً أقصر.