لا شيء في هذه الحياة يعادل قيمة الذكريات، وجمال الذاكرة، لا شيء يمكن أن يعوض غيابها أو سرقتها من الإنسان فجأة، وحين تدفن ذكريات الإنسان يشرع في إعداد كفنه ونعشه، لا شيء مثل الذكريات يجعلنا نعيش الماضي والحاضر وربما نقفز للمستقبل، هي محصلة الإنسان منذ بداية الوعي، ومسألة التخزين، هي زادنا وزوادتنا في هذه الحياة، بها نتقافز في صغرنا، ومعها نصارع التحدي في شبابنا، وعليها نتعكز في خريف العمر، الإنسان بلا ذكريات هو إنسان يتيم في كبره، سرعان ما تسحبه الوحدة المؤلمة نحو لا هدف ولا مستمسك وجود، ويبدو طافياً ناسياً الزمان، ولا مستشعراً المكان، تلك اللحظة هي القاصية للإنسان في ذهابه نحو المجهول، والأسئلة الكثيرة التي لم تمنحه سنوات العمر أن يعرفها أو يجد معادلة ترضيه لفهمها، موت الذكريات معناه موت الإنسان الحقيقي، وأن ما تبقى هو الفراغ، والفراغ فقط.
كم آلمني ذلك الكاتب الكولومبي الرائع «غارثيا ماركيز»، حين داهم رأسه ألزهايمر! وظل يمحو منه كل يوم شيئاً مهماً من حياته، ومغامراته، أسفاره، وثوراته، لحظات العشق الحقيقي لـ «مرثيدس» تلك الزوجة الوفية إلى حد تفوق فيه تربيتها الكاثوليكية، وتتعدى فطرتها اللاتينية كعاشقة للعائلة والمنزل والأهل، كيف كانت سنواته الأخيرة وهو يناظر الناس، ولا يقدر أن يربط بينهم وبين الأشياء والأماكن، وتمنعه الذاكرة المعطوبة من خلق حوارات بينها مثلما كان يفعل وهو ينحت رواياته؟ كيف ذهبت أيام إسبانيا والحرب، أيام باريس وبداية تلمس عشق الحروف والكلمات والأغاني وحبكة الحكايات؟ أيعقل أن صاحب مائة عام من العزلة يعتزل نفسه، ويؤبن ذكرياته، ويسلمها بطريقة مجانية للعدم والفراغ، ويعيش خفيفاً متخففاً منها؟! الذكريات وإن كانت عبئاً، على الإنسان أن يتحملها ويحملها كصخرة «سيزيف» لأنها سر بقائه، ومتعة حياته، لا أقدر أن أتصور ذلك العجوز العنيد، صباحه بلا ورق ولا قلم، ولا كلمة صباح الخير أيتها الحلوة «مرثيدس»! ولا شكراً على فنجان قهوتها، لأنه ما عاد يعرف «مرثيدس»، ولا يعرف الكتابة، ولمَ ذاك القلم الأزرق بجانب الورقة البيضاء، ولمن هذه القهوة التي تبدو طيبة كثغر فتاة نحبها؟ تسرق «مرثيدس» من عينيه أغنية حب منطفئة، فتقبّله، فيفهم حرارة خدها على خده، لكن الكلمات الهاربة من ذاكرته فجأة تتحول لدمع بارد في العين المنكسرة، «ماركيز» كان يجلس معه ويجالسه صديقه الحميم، ويظل كل يوم يعتذر منه لنسيانه، ويعتذر أكثر في وداعه لأنه كان يريد أن يقول له شكراً على الدوام أو يسمعه نكتة من نكات زمن الشقاوة وسكر الحانات والمراهنات اللاتينية على كل شيء، لكنه لا يفعل، ولا يقدر، فيعتذر له ثانية وثالثه بأنه ما عاد يعرفه، ويتمنى أن يعرفه من جديد، لكنه يعرف فقط أنه يحبه!
قاتلة هي الذكريات الهاربة من الإنسان، كيف ينسى شاعر قصائده التي قدّت من أضلعه؟ كيف تغيب الأغاني من فم مغن كانت تخرج مع شهقات نفسه؟ كيف ينسى زعيم الثورة رفاق السلاح، وأبناءها الذين تقاتلوا لا من أجلها، ولا عليها، ولكن طمعاً في مكتسباتها، وكيف هي، وما صارت عليه، وهل ثمة أمر كان يستحق كل تلك التضحية؟
موت الذاكرة يعني أن يجلس رسام تحت تمثاله الذي كرمته به مدينته، لكنها لم تقدر على أن تستعيد للرسام ذاكرته، ولا أن يجلس تحت ذلك المَعْلَم السياحي، فخر المدينة والناس فيها، يفتّ تحته خبزة يابسة، ويغمسها ببقايا مشروبه الأحمر الرخيص، موت الذاكرة الحقيقي أن يمر الإنسان بشارع يحمل اسمه، فيقرأ الاسم، وهو غير متأكد من ذاك الرجل الذي حمل هذا الشارع في هذه المدينة اسمه، يحاول أن يتذكر، فلا يقدر، وبعد خطوتين ينسى كل الموضوع، وأوله لوحة الشارع، واسمه!