انتابتني حالة سخرية من نفسي عندما قرأت تعليقاً لأحدهم يتساءل جدياً عن استمرار الناس بالاهتمام بالكتاب الورقي في ظل توافر كل ما نريده إلكترونياً! سخريتي من نفسي كوني كنت منذ سنوات طويلة من أصحاب هذا الرأي بل ومن أكثر المحابين للقراءة الإلكترونية، لأسباب كثيرة؛ أولها قناعتي بأن المعلومة المكتوبة لا علاقة لها إطلاقاً بالشكل الذي تُعرض به، بمعنى أن أثرها واحد، سواء أكانت منحوتة على صخرة مسلة أم على ورق بردي أم في كتاب ورقي أم على شاشة كمبيوتر أم نسخة لوح «كيندل». هذه القناعة وغيرها من الأمور التي كنت أسردها دوماً لكل من يعلن تخوفه من التحول الإلكتروني متحججاً بأحاسيسه المتعلقة بملمس الورق ورائحته، وعلى الرغم من كل ذلك يبقى الورق أفضل!
لم أتحول عن القراءة الإلكترونية، فهي أكثر جدوى في كونها قابلة للحفظ والبحث المفصل والاسترداد والتصنيف والفصل وإعادة الاستخدام من القراءة الورقية، غير أن الفرق الحقيقي والجوهري يظهر عندما يتعلق الأمر بنص أدبي، كالنصوص الشعرية والكتابات الفلسفية أو الروايات، إذ إن الاختلاف يظهر جلياً في درجة استقبالنا وتأثرنا بالمكتوب، وهذا يعد شرطاً أساسياً في درجة وذائقة المُستقبل.. ولكن كيف؟ يعتقد الأغلب أن للموضوع علاقة بالاعتياد السابق لشكل القراءة، ولكن هذا غير صحيح، كوني قارئة إلكترونية منذ ما يزيد على العقدين، بل وكاتبة إلكترونية فأنا لم أكتب أي نص بالقلم منذ عقد ونصف عقد تقريباً. لذا أكاد أجزم بأن السبب يعود لنوعية ما أقرؤه، كون الأعمال الأدبية على عكس العلمية والرقمية، تحتاج قدراً أكبر من العاطفة والمشاعر في التعاطي معها أثناء القراءة، لتكتمل الحالة الحقيقية لفعل القراءة، وهذا لا توفره القراءة الإلكترونية، ولكن لماذا؟ ما الذي يختلف، أليس المكتوب واحداً؟
حسب ما أكدته دراسة علمية حول تأثير التحول الرقمي على القراءة، اتضح أن القراء الذين استخدموا أجهزة «كيندل» سجلوا مستوى أقل من قراء الكتاب المطبوع فيما يتعلق بتذكر ترتيب الأحداث المترابطة لقصة غامضة. حيث أبدى أفراد العينتين (قراء الورقي والإلكتروني) اختلافاً في استرجاع توقيت الأحداث وإعادة ترتيب حبكة القصة، وكذلك درجة الاستغراق والتعاطف مع الشخصيات، حيث تفوق قراء الورقي في ذلك! إذاً فالاختلاف في الاستجابة العاطفية للعمل أمر في غاية الأهمية، وهو ما نحتاجه من النص الأدبي.
في تفاصيل عملية القراءة الورقية التي لا تتوافر في القراءة الإلكترونية، نتعامل مباشرة مع مجموعة أوراق متراصة فوق بعضها بعضاً في تراتبية لا تشبه تراتبية النص الرقمي، وهذا الأمر يؤثر في إحساسنا بالتقدم. إن إحساسنا اللمسي بكومتي الورق على جانبي الكتاب وبتكدس جانب مقابل الآخر الذي يقل بسبب تقدمنا في القراءة يدعم الجانب البصري، وهو أمر يؤدي إلى تفعيل عملية الإدراك لدينا (الوعي والانتباه). وهذا حقيقة علمية يمكن لأي كان التأكد منها. فالاستقبال اللمسي ينتقل عبر المسارات العصبية إلى قشرة الدماغ الذي يقوم بدوره في الحفاظ على درجة اليقظة الموجهة للمثير (النص الورقي).
لا توفر القراءة الإلكترونية هذه الميزة، بل أعتقد أنه يمكن تصنيفها من الأدوات المسببة للحرمان الحسي المؤثر على الجهاز العصبي، والذي يؤدي إلى اختلال إدراكنا. إذاً.. صدق من قال: إن في القراءة الورقية حميمية. ولكنها حميمية لها تفسيرها العلمي.