في الثامن من شهر يونيو، يحتفل العالم بيوم المحيطات، تقديراً لجمال وثروة البحار والخيران والمحيطات والمضايق والمياه المتداخلة مع اليابسة بأشكالٍ صورتها قدرة العلي العظيم، فأصبحت صوراً تهدي أنفسنا وتربطنا بالذكرة والذكريات. وفي لقاء حول دور المياه في حياتنا تذكرت كيف كانت والدتي - رحمها الله - تقول إن البحر نظيف وصادق، فهو «يلفظ» الشوائب ولا يسكن في جوفه وأعماقه إلا ما كان متعاوناً ومتكاتفاً ومتعايشاً مع طبيعته وأجوائه ومع تقلبات تياراته وأمواجه. وللبحر معي قصص لانهاية لها، وأسرار بعضها كاللؤلؤ المكنون، والبعض الآخر واضح يعرفه من يقرأ بين السطور، ويجهل رسائل البحر من غاب وعيه، وقلت ثقافته، وندرت معارفه بالأمور. في طفولتنا كنا نركض على «السيف» حفاة وترفرف ثيابنا من شدة الهواء، الذي يحد من سرعتنا، محاولاً إيقافنا لنشم رائحة «الصل»، ونسمع نداءات البحارة، ومن سيفة البحر كنا نجمع الأصداف التي تخرج من داخلها تلك المخلوقات الراقصة، التي تكاد تطلب منا أن نعيدها إلى واقعها ورمالها في البحر، ونحن نطلب منها أن تتفاعل معنا فنقول لها «سوي مله» و«سوي طاسة»، وكان لطيور البحر نصيب من ذاكرتنا، إذ كنا نطاردها حتى تطير، ولم نكن نعلم أن في وجودها وهجرتها من مكانٍ إلى آخر سر بقائنا، لذا لم تبقَ على البحر «حريشة» إلا وتعرضنا لها في القيظ والشتاء، وفي كل وقت. كنا نجمع الأصداف التي أحترمها لما تقدمه من خدمات أسميها «الخدمات الصدفية» من الصدف والتخمين لا أكثر، ويطلق عليه البعض ضرب الودع، فعندما ضاعت إحدى مصوغات والدتي ذات يوم قصدت إحدى سيدات الفريج، التي ألقت بمجموعة من الصدف على رمال حول بيتهم، وقالت لأمي بكل ثقة: صوغك عند فلانة! وعندما عدنا إلى البيت وجدنا صرة بها ذلك الذهب المفقود، الذي أثار شك والدتي والذي تلاشى فور تحول المفقودات إلى موجودات. هكذا كانت طفولتنا مليئة بالبحر والحب والطبيعة والذاكرة التي بها رائحة «عرق العنبر والزعفران والفوعة»، وهي روائح امتازت بها جداتنا فعلقت على جدران القلب والوجدان. عندما نكون على البحر وينتهي إلى مسامعنا أذان المغرب، كنا نترك كل شيء ونعود إلى منازلنا، فالبحر لناسه و«بابادرياه» الذي كان يسرق الأطفال عند غروب الشمس ليس من ناسنا.
للعارفين أقول، هذا البحر به تكمن الأسرار، ولكن من أعظم ما أعطانا إياه الله هو السمك واللؤلؤ والنفط، والرياح التي سيرت سفن الغوص والصيد والسفر. البحر ما زال منا وفينا، وهو دليل ورمز للاتحاد والقوة وروح الفريق، فالبحر لا يفرق بين الناس، ولا يعرف من يركبه مهما اختلفت الأجسام والعقول والثقافات، فهي تطفو على سطحه بحسابات دقيقة. الخور، البحر والمحيط كلها وسائل سهلت التواصل والالتقاء، وجاءت بأمواج التغيير والثراء، فعمقت فهمنا للآخر، وقلصت المساحات الرمادية. تذكروا جيداً أن البحر يصل حيث يريد.. لا حيلة تنطلي عليه، معايير السلامة والعدالة فيه تعتمد على الاحترام، والعلم والخبرة والمعرفة.