نوف الموسى (دبي)
يصعب أحياناً التفكير بتحقيق توازن في عمق مشهدية السرديات التاريخية، لأن هناك ما يشبه حالة تباين واختلاف في السياقات العامة للسرد التاريخي، والتوجهات الثقافية والمجتمعية، ما يسمح للفنانين بإعادة اكتشافها، وجعلها في مساحة مشتركة قابلة للنقاش، قد تُسهم في جعلها مترابطة رغم الجدل حول قيمتها وأثرها في طرح الأسئلة من قبل المشاهد، الذي يشارك بطريقة ما في جعلها أكثر تعقيداً، بناءً على الذاكرة التي قد يحتكرها التاريخ، بينما تكتنز الأعمال الفنية ظلالها الخفية، في العمل التركيبي فيديو «الحبل المشدود» للفنانة تاوس مخاتشيفا، الذي يعرض حالياً في مركز جميل للفنون بدبي.
نطالع رسول أباكاروف، يمشي على الحبل وهو من الجيل الخامس لأسرة متخصصة في هذا النشاط يحمل نسخًا مُقلدة لـ61 لوحة وعملاً فنياً، تعود إلى تاريخ الفن الداغستاني من تلة إلى أخرى، معيداً ترتيبها أثناء العملية، والتي تنتمي إلى متحف الفنون الجميلة بداغستان، مسقط رأس الفنانة، محاولاً بيان التوازنات التي تُجِيزُ لسرديات تاريخية بعينها أن تُسَيطِر على الصيغة السائدة للثقافة، ما يقود الأمر في اللحظة ذاتها للاستدلال على مفاهيم الانتقال والتحول في فضاء ترفيهي، وتعتبر مخاتشيفا أن الفكاهة في السرد الروائي من الطرق المباشرة للتواصل مع الجمهور، واللحظة اللافتة فيها عندما يضحك الشخص ويطرح الأسئلة في الوقت نفسه، خلالها تحدث عملية معينة، تهتم الفنانة بنتائجها وأبعادها على المتلقي.
من الوهلة الأولى التي شاهدت فيها رسول أباكاروف، يحلق بالأعمال الفنية التي تم اختيارها من متحف ب. س. غامزاتوفا داغستان للفنون الجميلة في العاصمة «محج قلعة» وأعيد إنتاجها لأغراض هذا الأداء، استحضرت قصيدة «اللقالق»، هي واحدة من أشهر الأغاني الداغستانية والروسية التي أتت من الحرب العالمية الثانية، والتي كتبها الشاعر الداغستاني رسول حمزتوف جد الفنانة تاوس مخاتشيفا وبخاصة المقطع الذي ترجمه الشاعر المصري عبد الرحمن الخميسي، وفيه: «جنود بلادنا من لم يؤوبوا راجعين، إلينا من ميادين القتال الداميات، يخيل لي أحياناً، بأن أولئك الغياب ما اجتدثوا أراضينا، ولكن أصبحوا طير لقالق هائمات، ومذ تلك العهود من الزمان، وهم أسراب أطيار تحلق وهي تدعونا».
في الجهة التي يبدأ فيها رسول أباكاروف باختيار اللوحات لحملها، تراها ذات تراتبية طبقية، واحدة تلو الأخرى، تتبنى شكلاً لطبيعة المكون والسرد التاريخي، بينما الوسيط وهو يمشي على الحبل وصولاً إلى الجهة المقابلة من التلة، فهو يرتبها كأنه يبني بيتاً، أحياناً يحمل لوحتين قماشيتين، وأحيانا لوحة بإطار بني كبير، يضطر أن يثبتها بقطعة متحركة متصلة في الحبل ويسحبها بقدميه، كان يحتاج خلال حمله الأعمال إلى توازن يسمح له بالمشي، فكل عملية انتقال لها أثرها على رسول أباكاروف، في بعض اللوحات كان يمشي بروية، وفي بعضها كان يتمايل كثيرا، وقد يستلهم المشاهد، في خفة أقدام رسول أباكاروف، بينما يهيم بالعودة ويديه خالية الوفاض، ليعود مجدداً محملاً باللوحات، كأنها رقصة باليه في مسرح معلق.
ولا بد للأداء الفني من تأثيرات في الفضاء العام، وتحديداً مع المتغيرات الزمنية التي مرت خلالها عملية نقل اللوحات مع حركة الشمس خلال اليوم، وتأثيرها على ألوان الأعمال، إلى جانب تفسير أسلوبها من الواقعية إلى الانطباعية والتجريد وغيرها، فهل لحضور اللوحة وما تسرده تاريخياً وتخفيه مجتمعياً، تأثير على الطريقة التي رتب فيها رسول أباكاروف، بعد أن حملها من منطقة التله الأولى إلى الثانية، والتي حاولت الفنانة تاوس مخاتشيفا عبرها أن تطرح مسألة الصدوع بين مؤسسات الفن والسياسة المعاصرة، أم أن الترتيب كان عفوياً بناءً على التجربة الذاتية لرسول أباكاروف، من يعكس ذاكرة مجتمعه، وبالتالي تبني الفنانة متحفا متخيلا، يستوضح جّل الارتباك المبطن في المكنون الثقافي والاجتماعي، الذي تسرده الأعمال الفنية بطبيعة الحال، ولكن موقعها في هامش السرديات التاريخية، يحول دون اعتبارها مُحركا دفينا، لأسلوب حياة المجتمعات وتذبذبه.