الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

«موهانا».. حياة في قوارب منزلية!

مجتمعات مستدامة تعود إلى حضارة وادي السند (تصوير أشرف العمرة)
20 أكتوبر 2021 03:05

نوف الموسى (دبي)

الطرح التاريخي لمفهوم «المجتمعات القديمة المستدامة» ضمن الجناح الباكستاني في «إكسبو 2020» يجعلنا أمام أنموذج حيّ، لطبيعة بناء الحضارات وارتباطها الأساسي بالتوازن البيئي، أي أن مقومات التطور والابتكار قائمة على إدراك الإنسان لقوة الطبيعية، فأغلب الاختراعات الإنسانية القديمة، جاءت متسقة مع فعل «الاستدامة»، ما جعل إمكانية استخدمها للمواد عادةً ما يكون مستمراً لأزمنة وعقود طويلة، وحالات التوقف أو التلاشي تحدث في متغيرات استثنائية مرتبطة بالتدهور البيئي، أبرزها التلوث والنفايات الصناعية التي جاءت لاحقاً وباتت تؤثر بشكل عام، على مختلف المجتمعات القديمة، التي لا تزال تحافظ على موروثها وثقافتها وتحرص على نقله لأبنائها، كجزء من إيمانها وانتمائها للمكان، أبرز تلك الأمثلة مجتمع «موهانا» من يعيشون في قوارب منزلية، تعود إلى حضارة وادي السند، «2600 - 1900 قبل الميلاد»، ما أكسبهم لقب «مير بحر» المقصود به «أسياد البحر».
حرص القائمون على الجناح الباكستاني على تقديم إنموذج حرفي لقوارب مجتمع «موهانا»، من خلال الاستعانة بأربعة أجيال مختلفة من الأهالي والحرفيين، ممن قدموا جماليات الزخرفة الممتدة على طول القارب المقدر بـ«6.7 م»، وعرضه «2.6 م»، أما الارتفاع فيصل إلى 2 م، من خشب «شيشام» و«مران»، ويقال إن حجم تلك القوارب في التاريخ القديم كان أكبر بكثير من ذلك، فقد كانت تصمم غرف بالكامل في داخلها، إضافة إلى أماكن للجلوس وإعداد الطعام.

في الوقت الحالي يوجد القليل جداً منهم في قرى عائمة على نهر بحيرة «مانشار» - أكبر بحيرة طبيعية للمياه العذبة في باكستان - يعملون في مجال الصيد، ويعتبرون من المجتمعات القديمة المتضررة نتيجة استمرارية فقدان التنوع البيولوجي في النهر، ما يجعل حضورها في «إكسبو 2020» فرصة لمناقشة طرق ووسائل إنقاذ المجتمعات القديمة المستدامة، من خلال إبراز القيمة الثقافية والجمالية لتلك المجتمعات النوعية. 
الزخرفة الممتدة على طول القارب، أيقونة بصرية تستوقف الزائر للجناح الباكستاني، كونها تعكس طبيعية الاهتمام الذي أبداه مجتمع «موهانا»، في تزيين قواربهم، لأنهم عملياً يقيمون فيها كل احتفالاتهم الاجتماعية من حفلات الأعراس والتجمعات الأسرية، وتوليد النساء، ويتصور المشاهد بملامسته للنحت المرسوم على خشب القارب، بأنها دلالة على الحياة الرغيدة التي عاشها المجتمع في السابق، حيث تسنى لكل عائلة أن ترسم النقوشات وتتفنن في الاهتمام بمحتويات القارب وتأثيثه، إلى جانب كونها تعكس البعد الثقافي البصري للحرفين وفنياتهم، مشكلاً القارب في الجناح الباكستاني - استخدم في بنائه عمليات أصلية بالكامل بعد ما يقرب من ستة عقود - حواراً فنياً لماهية أبعاد تلك الصناعة، على ضفاف نهر السند، حيث لا يزال أفراد من مجتمع موهانا يستقرون، يُذكر أن شعب موهانا يعيشون بشكل رئيس في مقاطعة السند الباكستانية، ويتحدثون اللغة السندية، وقد قدم المخرجان تيمور رحيم ووحيد علي، عبر فيلم «Mir Bahar - Lord of the Sea» أسلوب الحياة اليومية لـ موهانا، وكيف يعيشون بشكل يومي على صيد الأسماك، التي فُقد العديد منها، وما تبقى من الأنواع الأخرى، يباع بمبلغ زهيد، ما يجعل الحياة صعبة للغاية، يسرد أحد أفراد مجتمع موهانا كيف أنه بعودة المياه العذبة للنهر، وتنقيتها من المياه الملوثة، فإنه بالتأكيد ستعود الأسماك بتنوعها للحياة المائية المليئة بالخيارات، التي عاصرها آباؤهم وأجدادهم، واصفاً تلك العلاقة بـ «التناغم والهارموني» بينهم وبين الطبيعة.

فوتوغرافيا الحياة 
المصورة الفرنسية «SARAH CARON» من ترتحل حول العالم في مهمة لمجلات فرنسية وعالمية، ومشاريع شخصية طويلة المدى، وثقت مجموعة من الفوتوغرافيا للحياة الفريدة التي يعيشها مجتمعات «موهانا»، عبر مشروعها The Last Mohana» People»، وصرحت بأن صورها إنما رسالة لأهمية الحفاظ على أسلوب حياة أُناسها، المرتبطة بشكل أساسي بأزمة بيئية، تستدعي التدخل لإنقاذ آخر شعب موهانا التاريخي، قائلةً: «ما كان في يوم من الأيام جنة للصيد، أصبح الآن ملوثاً بالنفايات الصناعية السامة التي يتم تصريفها في مياه البحيرة الشاسعة، صوري هي تسجيل لنهاية الجنة على الأرض، حيث كان يعيش البشر والطبيعة في وئام منذ آلاف السنين»، ووصفت سارة عبر الفوتوغرافيا المتنوعة العلاقة الفريدة التي تربط مجتمع موهانا بالطيور، من خلال قدرتهم على التواصل مع مختلف أنواع الطيور وترويضها وتدريبها لتساعدهم على صيد الأسماك، وأطلعت سارة خلال رحلتها الفوتوغرافية كيف أن فقدان الموارد التي أتت من الصيد، جعلت بعضاً من مجتمع موهانا يتخلى عن أسلوب حياتهم التقليدي على المياه في المراكب، واستقروا كمجتمعات على الشاطئ عبر ملاجئ مصنوعة من الطين والقصب.

الامتداد التاريخي 
احتمالية فقدان تقاليد حضارية لمجتمع يعود تاريخه إلى خمسة آلاف سنة، يتطلب إعادة اكتشاف الامتداد التاريخي للسكان الأوائل لوادي السند، وتحديداً حضارة وادي نهر السند 3300 - 1300 قبل الميلاد، والمعروفة أيضاً باسم حضارة «هارابان»، امتدت من شمال شرق أفغانستان الحديث إلى باكستان وشمال غرب الهند، جاءت حضارة وادي السند، واحدة من ثلاث حضارات مبكرة في الشرق الأدنى وجنوب آسيا، إلى جانب حضارة مصر القديمة وحضارة بلاد الرافدين، شملت الابتكارات المهمة لهذه الحضارة الأوزان والمقاييس المعيارية ونحت الختم والتعدين بالنحاس والبرونز والرصاص والقصدير، والسبب في أنه لا يُعرف الكثير عن مؤسساتها وأنظمة حكم الحضارة في وادي نهر السند، بسبب عدم قدرة الباحثين على تفكيك شفرة «نص إندوس» أو ما يعرف بالكتابة السندية، التي تمثل مجموعة من الرموز، حيث إن النقوش التي تحتوي تلك الرموز في غاية القصر، ما يجعل عملية تحديد إذا ما كانت هذه الرموز تستخدم لتسجيل لغة ما، أو اعتبارها نظام كتابة مهمة صعبة، ويُتوقع أن سبب انتهاء الحضارة مرتبط بتغير المناخ والهجرة!
إذا ما صحت نظرية انتهاء حضارة وادي نهر السند، بسبب التغيرات المناخية، فإنه من المهم الانتباه إلى مفهوم «الاستدامة» كقيمة حضارية متصلة بكل أنواع الابتكارات والمكونات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية للبلدان في العالم، وليس فقط رؤيتها كعامل اقتصادي محفز على تقليل تكلفة الاستنزاف البيئي، ونمو الموارد الطبيعية، وطرق استثمار الطاقة المتجددة، بل إنها بمثابة قاعدة أساسية لاستمرارية البنية الاجتماعية بموروثها الإبداعي من حرفيات وصناعات يدوية ومواد أولية صديقة للبيئة، تحفظ مكونات المجتمعات القديمة ذات الرؤية المستدامة، بمعنى أنها قررت واختارت الاستمرار في الحفاظ على موروثها الحضاري، رغم كل أشكال تطور الحياة العصرية.

الطبيعة الأم
من بين القصص اللافتة لكيفية ارتباط مجتمع «موهانا» بالقوارب، والتي يمكن وصفها بـ الطبيعة الأم، كونها مبنية من الخشب، فهي في اعتباراتهم تجاوزت مسألة البيت بمعناه الاعتيادي، ويؤكد ذلك حكاية سردتها سيدة من نساء موهانا، بأنه عندما يموت أحد منهم، فإن مراسيم الاغتسال وطقوسها تكون على القارب، أي أنهم يبدؤون الحياة وينهونها على ضفاف النهر، ليدفن بعدها في إحدى القرى المجاورة، من مثل قرية Bobak - البنجاب، في باكستان. فعلياً لم تكن مشهدية جمالية القارب في «إكسبو 2020»، سوى لغة إنسانية رفيعة، حفر من خلالها مجتمع «موهانا» نقوشاً بأرواحهم، لبيان اتصالهم الطبيعي مع الماء، مصدر الحياة على الأرض، ولا يبدون أي نوايا للاستقرار على اليابس، الذي لا يُعد خياراً بالنسبة لهم، وإذا ما حصل فهم مضطرون إليه، وبه يستمع العالم وبشكل جدي إلى الحاجة الماسة للحفاظ على التكوينات المجتمعية، مثلما هو الحرص للحفاظ على المكونات البيئية البيولوجية، فقد كان مجتمع موهانا وعبر التاريخ سبباً في ازدهار البيئات الحيوية على ضفاف نهر السند، إنها عملية تبادلية منسجمة بين احتياجات الطبيعية والإنسان.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©