الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«الحصان، السلوقي والصقر».. ترصد تساؤلات الإنسان

بريشة أولجا بيرني (من المصدر)
2 يوليو 2020 00:42

يلتمس المرء النصيحة من الأصدقاء، ويسعى للبحث عنها، وربّما جاءته الحقيقة على طبق من محبّة؛ وذلك ما نراه في دفء الحقيقة التي تقبسها فتاة تبدو حائرة وهي تسجّلها في قلبها قبل ذاكرتها، من أصدقائها: الحصان، السلوقي والصقر.
تلك هي رواية الشيخة سلامة بنت هزاع آل نهيان، التي تودعها في قلوب القرّاء ووجدانهم وعقولهم، وهي تصنع محاورةً بين هذه الفتاة وهذه الحيوانات التي نشعر بما تحمله من معانٍ ودلالات، تشير إلى القوّة والحريّة والتحليق والوفاء والطيران، وتعكس العديد من التساؤلات الإنسانية.
فالرواية التي ترفدها صور زاهية وجميلة جداً، وغير متكلّفة أو مزدحمة بالكلام، تشعرنا بهذه العلاقة الحميمة بين السؤال والإجابة، وقد اعتمدت الشيخة سلامة على الشذرات التي تختزل جيوشاً من الكلام، وتحمل أيضاً كثيراً من المعنى المتضمّن في عبارات جاءت تلقائيّةً، ولكنْ، بذكاء، لأنّ التصوّر المسبق في الرواية راعى مدى شغف النفس البشريّة بالشوارد من المثل أو الحكمة، أو ما يجري في الأذهان واختمرته التجربة، والحقيقة أنّ هذه الرواية التي راعت فيها الشيخة سلامة ألا تزيد على اثنتين وأربعين صفحةً مع الصور التي تعززها، وعلى قصرها في السؤال أو التساؤل بين الفتاة وأصدقائها (الحصان والسلوقي والصقر)،.. هي رواية تحتشد بمعلومات يخرج منها القارئ ممتلئاً نحو تغيير معنى حياته، باتجاه التأثير الإيجابي في نفسه وفي نفوس من يسرد عليهم ما ورد فيها من إشارات وكلام يقف في المنتصف في كثير من الأحيان، خاصةً حين يُشكل على الفتاة أمر، أو عندما تحار في المفاضلة بين أمور، أو تنشُد أفقاً جديداً ومفارقاً، أو غير ما اعتاده الناس.

ثقافة المؤلفة
تعكس هذه الرواية مدى الثقافة الكبيرة التي تتمتع بها المؤلفة الشيخة سلامة بنت هزاع، وهي تلخّص للقراء وجدانها وخبرتها وتأملاتها في الحياة والوجود الإنساني، وصفات الجرأة والشجاعة والتحليق الفكري؛ لأنّ الشذرة هي نقاط عريضة تدلّ على كلام كثير يكون بمثابة التجليات التي تنثرها في حوارات متكاملة، وتضعنا بشكل تجديدي في كتابة الرواية، اعتماداً على أنّ عصر السرعة لا يحتمل التوقّف والبطء، بل يحتاج إلى أن نحفز القارئ أو المتلقي على الفرح بملخّص الخبرة داخل الحياة وفي إطارها، وهذا ما حملته الرواية التي سنتعرّف على محاورها الرئيسة من هذه الحوارات.
تطرح الرواية، وعلى لسان الحصان مثلاً، مواضيع: التقبّل، والتعايش، والقلب المليء بالرحمة، وهي في الواقع عناوين، جداً، مهمّة من المنظور الإنساني، ويمكن أن نسقط كلّ ذلك على البشر مباشرةً في صراع الدول والشعوب، وتداخل الأجندات، وتضاءل القيمة الإنسانيّة أمام تقبل «الآخر»، أو التعايش معه، أو حتى النظر إليه بمنظار الرحمة والتوادّ والاحترام.

  • غلاف الرواية
    غلاف الرواية

ثمّ يبرز «الموطن» الذي يطير به الصقر مثلاً في إجابته عن تساؤل الفتاة وهي تراه لا يستقرّ في مكان: «موطني أينما أجد الحبَّ»، والحقيقة أنّ الشيخة سلامة بنت هزاع ترمي لنا من هذه الكلمة «الحب» إلى أنّ الإنسانيّة وطنها الكون جميعه، وأنّ المحبّة تجعل كلّ الأرض صالحةً للعيش، لكنّها في الوقت ذاته، تترك لنا الكلمة مفتوحةً أيضاً على الحَبِّ، لتحيلنا إلى أنّ الطيور تقتات على القليل من الحَبّ، مثل الإنسان الذي يحتاج إلى القليل ليعيش، فهي نصيحة الحُبّ والفرح، لكي يعيش الإنسان.

مطلب الحرية والأمل
إنّ الرواية وهي تتكامل في إجاباتها في حوار الفتاة وأصدقائها، تجعل من الحيوانات الثلاثة مصدر خبرة وحكمة، والواقع أنّ هذه الحكمة تبثّها الكاتبة الشيخة سلامة بنت هزاع، وذلك يماثل فلسفة ابن المقفع في كتابه الشهير كليلة ودمنة، غير أنّ الاختصار هنا يعطي لمحةً جميلة، مثلما يعطينا التبادل والتناوب في الحوارات بين الفتاة وأصدقائها أكبر الأثر لتغيير القناعات الخاطئة، والنظر إلى المستقبل بتفاؤلٍ وحب.
وفي الرواية ثمّة مواضيع مهمة في التعاطف والرأفة، والتحدي، والنمو، وفلسفة النظر إلى الأشياء من قمّة شجرة، في حوار الصقر والفتاة، وهو الدور الذي رأى الحصان أنّ الفتاة منوطةٌ به، كما أنّ اكتشاف المرء لمعدنه أمرٌ حيويٌّ جداً، من وجهة نظر الحصان.
أمّا مطلب الحريّة المتضمّنة في صورة السماء الواسعة، فموضوعٌ جدير بالالتفات إليه من وجهة نظر الصقر، هذا الطائر الحوّام في السماء، ولا شكّ في أنّ الحريّات باتت تنتقص كثيراً في عالمنا اليوم، كما أنّ مراقبة الطبيعة والنظر إلى المعاصرة من عدسة الماضي أمرٌ مطلوب، وكأنّه أمرٌ فكريٌّ صعب، نحار فيه بين الحاضر والماضي والمستقبل.
وهكذا، فنحن أمام عناصر الثقة والفرح بالحياة، وعدم القنوط أو اليأس، بسبب الوقوع قبل لحظة التمكّن الأخيرة من الطيران، أما توهان الإنسان، فسبب فلسفيٌّ مهم لاكتشاف الطريق. 
وحين ينظر الصقر من علٍ إلى مشاكله، فإنّها تبدو صغيرة،.. وهذا وجهٌ من وجوه عدم الاستسلام أو الموت أمام أشياء تبدو صعبة ولكنّها يمكن أن تُحلّ بسهولة.
الحب، الشجاعة، الخوف، الجرأة، الحياة المدرسة، الالتفات إلى المواضيع المهملة، السعادة، التأني، الخسارة، الفشل، التحرر من قيود الذات، الشفافية، الصدق، كلّ هذه نقاط مهمّة طرحتها المؤلفة في حوارات تناسبت مع خصائص الأصدقاء الثلاثة، ولذلك فهي الدورة الحيوية للحياة ودورانها والنظر للغد بأمل، بل إنّ الحوارات تكشف لنا عن يوم الرحيل الذي لا نأخذ فيه معنا غير أعمالنا الصالحات، وهو وجهٌ من وجوه ثقافتنا العربية الإسلامية والإنسانية أيضاً في نظرتنا للأمور، وتقليبنا للكثير من أوجه الحياة التي يجيء الواحد منا إليها صفحةً بيضاء بكل جموحٍ وتحليق ومحبّة، مثل جموح الحصان، وتحليق الصقر، ووفاء السلوقي وحُبّه، بل بكلّ رغبة بالحياة، لنكتشف حجم الألم والمحددات والعوائق التي دائماً ما تعترض طريق الإنسان.
أما اللوحة الأخيرة من الرواية، فنكون فيها مع سؤال الفتاة لأصدقائها: «لماذا يعامل بعض الأشخاص الحيوانات بقسوة؟!» ليجيب الأصدقاء بأنّ كثيرين ربما يعتبرونهم، كحيوانات، أدنى درجة من البشر، لأنهم لا يتكلمون اللغة نفسها، «في حين أنّنا نتشارك لغة الصمت نفسها والمشاعر والأحاسيس ذاتها».
بقي أن نقول إنّ الرواية التي تزيّنت برسومات «أولجا بيرني»، جاءت معبّرةً جداً، ويمكن أن يقتنيها القارئ ويصطحبها في حلّه وترحاله، وفي وظيفته وفي الساحات العامّة، بل وبين العائلة التي يمكن أن تشاركه قراءتها لتنعم بحواراتها الفلسفيّة الراقية والخيّرة، وهذا جهدٌ كبير يعكس مدى رونق الحوارات ودفئها، وحساسيّة الكلمة، وجمال الرسومات الحميمة مع كلّ سطر أو عبارة، فهي جولة على ذواتنا ودواخلنا، نجلو بها همومنا، ونخفف بها من مصابنا الإنسانيّ، قدّمتها المؤلفة الشيخة سلامة بنت هزاع في دفقات خالصة وصافية ورقراقة تنبع من الذّات، في شذرات من الشكوى والحوار بين الفتاة وشركائها: الحصان والسلوقي والصقر.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©