الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ما هو الحُبِّ؟

ما هو الحُبِّ؟
23 يوليو 2020 00:46

ما لا يعرفه المُحبُّ هو كيفَ أحبَّ، وما يعرفه فقط هو أنه انخَطفَ بالحبِّ انخطافاً. وإنّ تاريخنا العشقيّ العربيّ يُنبئُ بأننا لا نختار الحبَّ وإنما هو مَن يختارنا لنَقَعَ فيه. والوقوع في الحُبّ حدثٌ خاصٌّ وفُجائيّ لا يقدر المرءُ على التنبّؤِ بظهوره؛ ففيه من الوقيعةِ أكثر ممّا فيه من التوقُّعِ، حتى لكأنّ الحبّ لا يُسمّى حبّاً في مخيالنا العاطفيّ إلاّ إذا وقعنا في غياهب جُبِّه، ووَفْقَ منطِقِ هذا المخيال نفسِه، فالحبّ ليس أعمى وإنّما العميانُ هم العُشّاق الذين يقعون فيه، وهو أيضاً استيلائيٌّ؛ لا يترك لنا فرصةً ممكنة للتفكير فيه ولا عضواً من أجسادنا سالِماً منه. ناهيك عن أنه موصوفٌ عند الناس صفاتٍ كثيرةً، هو فيها غيرُ معروفٍ كثيراً.

هذا هو البَيّنُ في غيرِ ما حكايةٍ من حكايات العشق، وهذا هو أيضاً منشأ أزمتنا مع الحب، بل قُلْ: هذا منشأ حَيْرَتِنا في تعرُّفِ ماهيتِه ومفعولِه الاجتماعيّ. وهي الحيرةُ ذاتها التي تنبّه لها ابن حزم الأندلسيّ في «طوق الحمامة»، ودعا ربّه أن يُنجّينا منها بقوله في مفتتح كتابه: «عَصِمَنا الله وإيّاك من الحَيْرة». وتزداد هذه الحيرةُ عُمقاً، متى ما أدخلنا الدّولةَ في أُفُقِ الحبّ وتدبيرِ شؤونه بين الناس.

البحث عن المنشود
ولأنّه الحبُّ، فقد «اختلف الناسُ في ماهيته وقالوا وأطالوا»، على حدِّ ما جاء في طوق الحمامة، وأمام حيرتنا في تعرُّفِ حقيقته، سنستفيد من تحليل الفرنسي أندريه كونت سبونفيل لماهيتيْن من أشهر ماهياتِه وذلك خلال محاضرة بعنوان «معنى العمل، السعادة والدّافع» ألقاها بكلية أُودَنْسِيَا للأعمال بفرنسا؛ الأولى قال بها أفلاطون، والثانية اقترحها باروخ سبينوزا. أمّا الماهيةُ الأولى، فهي تلك التي ذكرها أفلاطون على لسان سقراط: «مَن يشعُرُ بالرّغبة في شيء ما، إنما هو يرغَبُ في ما لا يملكه، وفي ما هو غير موجود لديه؛ وإنّ ما لا يملكه، وما ليس هو نفسه، وما يفتقر إليه، كلّها تُمثّل أنواعَ الأشياء التي تتّجه إليها رغبتُه وحبُّه» (المأدبة، ترجمة لوك بريسّون، فلاماريون، باريس 1999). ويمكن أن نُحوّل هذا القولَ إلى المعادلة التالية: الحبّ = الرغبةَ/ والرغبةُ = النقصانَ. وعليه، فنحن لا نحبّ إلا ما نرغب فيه، ولا نرغب إلاّ في ما ينقصنا. 
وتجدر الإشارة، هنا، إلى أنّ هذا المعنى قد ذكره ابن سينا فيما بعدُ في عبارة جميلة وردت في كتابه «رسالة في ماهية العشق» بقوله: «في كل واحد من الموجودات عشقٌ غريزيٌّ لكماله». وقد نوقشت مسألةُ الحبّ عند أفلاطون من قبل الكثير من المفكِّرين، من ذلك أنه لو ذهبنا مذهب الفرنسي أندريه كونت سبونفيل، وعكسنا معه معادلة الحب عند أفلاطون لأصبحت كالتالي: إذا حصلنا على موضوع النقصان - أي موضوع الحبّ - فإنّ الرغبة فيه ستنتفي، وإذا انتفت الرغبة فيه، سينتفي معها حبُّنا له. وإذن: فالحب عند أفلاطون هو ما يقع في حيّز المنشودِ دوماً، بل هو ما يسعى إلى أن لا يتحقّق لتظلّ الرغبةُ فيه ناميةً، ويظلّ هو موجوداً في غيابه، إنه وعيٌ بضرورة استمرار حالة النقصان، أي: هو العذابُ العاطفيُّ بعينه. وفي أفق هذا، يمكن أن نفهم الحمولة الدّلالية لعبارةِ الحبّ الأفلاطونيّ في بُعْدِها الاستعاريّ. ولم ينسَ ابن حزم أن يُنبّهَنا في «طوق الحمامة» إلى أنّ العذابَ الأفلاطونيّ هو ضريبتنا التي ندفعها لمعرفة ماهية الحُبّ، حيث نلفيه يقول: «الحبُّ - أعزك الله - أوله هزل وآخره جِدُّ. دَقَّتْ معانيه لجلالتها عن أن توصفَ، فلا تُدْرَك حقيقتُها إلا بالمعاناة». وهذا يعني أنّ الحبَّ ليس لعباً وتمضيةً للوقت، وإنما هو جِدٌّ، ولا تُدرَك حقيقةُ معانيه إلا بمشقّة الأنفس الراغبة في دخول ملكوته. وهذا التصوّر الذي اقترحه أفلاطون قد أوقعه في ورطة، وصورتُها الجليّة عند أندريه كونت سبونفيل، هي افتراضُنا مثلاً أنّ شابّاً رغب في شابةٍ (أو العكس) وتزوّجها، فزواجه بها يعني أنه حاز على موضوعِ رغبته، وهذا التملّك لموضوع الرغبة، إنما هو ما يُشبع تلك الرغبةَ نفسَها، ومن ثمَّ يقتلُها، وحين تموت الرغبةُ في المحبوبة، ينتفي حبُّ الشاب لها. وإذن، فالزواج عند أفلاطون إنما هو حدثٌ ضديدٌ للحبِّ، وهذا ما جعله أفلاطونيّاً في حبّه فلم يتزوّج، إلى أنْ ماتَ.

علّة الفرح
أما الماهيةُ الثانية للحبّ، فهي تلك التي اقترحها سبينوزا في قوله: «إنّ الحُبَّ (Amor) ليس إلاّ اللذّة المصحوبة بفكرة عِلّة خارجيّة» (سبينوزا: علم الأخلاق، ترجمة جلال الدين سعيد، 2009)، ثمّ هو يكرّر هذا التعريف بتعويض لفظة اللذة بلفظة الفرح في قوله: «إنّ ما نسمّيه حبّاً هو الفرحُ المصحوب بفكرةِ عِلّة خارجية»، وما العلّة الخارجية هنا إلاّ موضوعُ الحب، أي: المحبوب. وكان سبينوزا قد وصف ذاك الفرحَ بقوله إنه «انفعال تزداد به قدرةُ الجسم على الفعل»، وبه تَشعر الذّات بقدرتها على التأثير، أيْ بقدرتها على أن تكون سعيدة. ويشرح ذلك بقوله: «وبقدر ما يكون فرحي أعظم، يكون الكمال الذي أنتقل إليه كمالاً أعظم». وبناء على ذلك، فإنّ «كلّ ما نتخيّل أنه يقود إلى الفرحِ، فإنّنا نَجِدُّ في الحصول عليه». وببعض التأليف لرأي سبينوزا، يجوز لنا القولُ: إنّ الحبّ إنما هو قدرة الإنسان على ابتكار السعادة والفرح والبهجة، وقدرته على تلافي الحزن.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©