الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. ألفة يوسف لـ «الاتحاد الثقافي»: المصالحة مع الإسلام السّياسيّ مجرّد وهم

د. ألفة يوسف لـ «الاتحاد الثقافي»: المصالحة مع الإسلام السّياسيّ مجرّد وهم
27 أغسطس 2020 00:24

أجرى الحوار: ساسي جبيل

تعتبر المفكرة الدكتورة ألفة يوسف من أبرز الأصوات العربية التي عارضت خطر الإسلام السياسي ووقفت بالمرصاد، من خلال مؤلفاتها المختلفة في الشأن الديني، لهذه الظاهرة الخادعة للشعوب العربية. وفي حديثها لـ«الاتحاد الثقافي» تخوض د. ألفة يوسف في العديد من المسائل المتعلقة بعلاقة «الإخوان» بالديموقراطية، ومدنية الدولة والطرح الفكري المبني أساساً على التقية، وعلاقة هذه الحركات بالنخب، وغيرها من المحاور.

* بدايةً، كيف تقيّمين علاقة الإسلام السّياسيّ بالدّيمقراطيّة؟
- أعتقد أنّ كثيراً من المهتمّين بالسّينما المصريّة يذكرون عبارة يوسف وهبي الشّهيرة: «شرف البنت زيّ عود الكبريت ما بيولّعش إلاّ مرّة واحدة». من المنظور نفسه، يمكن أن نعتبر أنّ الدّيموقراطيّة لدى الإسلاميّين لا تشتغل إلاّ مرّة واحدة عندما يريدون بلوغ الحكم. فهل هناك مثال واحد لإسلام سياسيّ تراجع دوره في بلاد مّا عبر الآليّات الدّيموقراطيّة؟ ما رأيناه تاريخاً في الجزائر والسّودان ومصر وسواها، يؤكّد أنّ حكاية الإسلام السّياسيّ تبدأ بالتّرويج للدّيموقراطيّة واجهة برّاقة، وتنتهي بالتّمسّك بالحكم، رغم ما يتميّز به في جلّ الحالات من فشل في إدارة الشّأن العامّ. أمّا عن المصالحة مع المجتمعات، فهي أيضاً شعار سريعاً ما يفقد بريقه، ذلك أنّ ما دفع بعض الشّعوب العربيّة إلى إعطاء أصواتها وثقتها لجماعة الإسلام السّياسيّ، ليس التّلويح بالدّيموقراطيّة وإنّما التّلويح بحكم بمقتضى قيم الإسلام الأوّل وأخلاقيّاته. ومن أمثلة ذلك أنّ التّونسيّين عندما انتخبوا الإسلام السّياسيّ (ممثّلاً في حركة النّهضة الإخوانية) سنة 2011، كانوا يتحدّثون عن انتخاب «ناس تخاف ربّي». على أنّ هذا الطّموح الطّوباويّ لم يتجسّم على أرض الواقع، ويتحطّم على صخرة الإكراهات السّياسيّة والحسابات الانتهازيّة، بما يجعل المصالحة مع الإسلام السّياسيّ مجرّد وهم.

المتاجرة بالدين 
* هل للإسلام السّياسيّ مستقبل في البلدان العربيّة؟ وما هي ضمانات ذلك؟
- لا يمكن لأحد أن يرجم بالغيب. على أنّ قراءتنا للمستقبل السّياسيّ منطلقها استقراء الواقع التّاريخيّ في علاقته بالمتغيّرات العالميّة. فلا يمكن إلاّ لجاهل، أو لمصاب بمرض نظريّة المؤامرة، أن ينكر أنّ جميع بلدان العالم في علاقة ببعضها بعضاً، وأنّ المتغيّرات السّياسيّة في السّنوات الأخيرة شديدة التّسارع. وانطلاقاً من كلّ ما سبق، يمكن أن نؤكّد أن لا مستقبل للإسلام السّياسيّ إلاّ في حال قام بمراجعات فعليّة داخله. وهي مراجعات عليها توضيح أمرين أساسيّين: أوّلهما موقف الإسلام السّياسيّ من مدنيّة الدّولة، وبيان الفرق بين دولة تستلهم شعائر الإسلام وقيمه من جهة، ودولة تيوقراطيّة مستبدّة تحكم باسم السّلطة الإلهيّة وتعتبر من يعارضها خارجاً عنها، وترى في طاعة أولي الأمر جزءاً من طاعة الله تعالى. والأمر الثّاني الّذي يجب أن تراجعه حركات الإسلام السّياسيّ هو جعل الدّين في خدمة السّياسة، أو بعبارة أخرى ادّعاء هذه الحركات أنّها هي وحدها المخوّل لها الحديث باسم الدّين، وأنّها هي وحدها العارفة بتأويله الصّحيح، وأنّها هي وحدها المؤتمنة على تطبيق شرائعه، وما إلى ذلك. بعبارة أخرى، على حركات الإسلام السّياسيّ أن تكفّ عن المتاجرة بالدّين واجهة للسّياسة، وعليها أن تتذكّر قول الشّعراوي: «أتمنّى أن يصل الدّين إلى أهل السّياسة، ولا يصل أهل الدّين إلى السّياسة». لكن إذا تحقّق ذلك، فهل ما زال وصف الإسلام السّياسيّ ينطبق على هذه الحركات؟ 

التقية في المسائل المدنية 
 *ألا يمكن أن نعتبر أنّه بقبول أن تلعب المرأة أدواراً ضمن المراكز الأولى، في مؤسّسات بعض الحركات الإسلاميّة السّياسيّة، يتطوّر الإسلام السّياسيّ وخطابه نحو ضرب من المدنيّة تبعد عنه شبح التّطرّف؟
- هناك مفهوم جوهريّ لدى الحركات الإسلاميّة، ومن لم يفهمه لا يمكن أن ينفذ إلى عمقها. وهذا المفهوم هو التّقيّة. وليس هذا المفهوم مجرّد فكرة مبثوثة في جلّ أدبيّات المنظّرين الكبار للإسلام السّياسيّ، ولكنّه أسلوب ومنهج ورؤيّة تتجسّم على أرض الواقع. والتّقية هي إظهار شيء وإضمار آخر من أجل تحقيق غاية سامية عليا. ولذلك قد تجد جماعة الإسلام السّياسيّ يفاجئون النّاس أحياناً بمواقف موغلة في الحداثة حول المساواة بين الجنسين والميولات الجنسيّة وما إلى ذلك. والهدف هو إقناع القوى الغربيّة الّتي تحكم العالم بأنّ هذه الحركات قد تحدّثت وغدت مواكبة للعصر، عساها تجمع أكثر ما يمكن من الدّعم لها. أمّا في واقع الأمر، فخطاب الإسلام السّياسيّ تجاه المرأة لا يختلف عن خطاب ابن تيمية وسواه من فقهاء القرون الوسطى. صحيح أنّ بعض النّساء «الحداثيّات» يقبلن بالانضواء ضمن هذه الحركات، لاسيّما زمن سطوع نجمها السّياسيّ، وذلك لغايات سياسيّة انتهازيّة، والماكيافيلية مشروعة في بعض الإيديولوجيات السّياسيّة. أمّا المناضلون النّسويّون والنّسويات من أجل مساواة جندريّة فعليّة، فلا تغريهم «فترينة» حركات الإسلام السّياسيّ. وفي تونس، مثلاً، يعسر أن تنسى النّساء أنّ راشد الغنوشي يؤكّد في كتبه «أنّ وظيفة المرأة هي جنسيّة أساساً». 

منزلة المسألة الثقافيّة
* كيف تقيّمين منزلة المسألة الثقافيّة ضمن الخطاب الذي يروّجه الإسلام السّياسيّ كتوجّه يغنم من المدارس المعتدلة، على نحو ما تقول حركة النّهضة الإخوانية في تونس عن نفسها من أنّها تستلهم من الحركة الإصلاحيّة للزّيتونة؟
- من دأب الإيديولوجيات أنّها تحاول دوماً أن تدرج نفسها ضمن مدرسة ثقافيّة فكريّة معترف بها. وهنا أعود مرّة أخرى إلى مسألة التّقيّة، أو الفرق بين الظّاهر والباطن، أو الفرق بين ما يتمّ التّرويج له وواقع الأمر. وسأضرب نفس المثال الّذي طرحه السّؤال حول حركة النّهضة الإخوانية التّونسيّة. فإذا كانت هذه الحركة تنتسب، كما تدّعي، إلى الحركة الإصلاحيّة الزّيتونيّة، فمن أين يأتي ولاؤها إلى «الإخوان»؟ والجميع يعلم أنّ «الإخوان» لهم انتساب فكريّ ثقافيّ بعيد كلّ البعد عن المدرسة الإصلاحيّة الزّيتونيّة؟ ثمّ إن كانت حركة النّهضة تنتسب إلى الحركة الإصلاحيّة، فما الفرق بينها وبين الحركة الدّستورية بانية الدّولة التّونسيّة، والحال في الواقع أنّ النّهضة ما انفكّت تعادي الفكر البورقيبي وتتّهم المنتسبين إليه بالعلمانيّة، بل بالإلحاد؟ وحتّى إذا ضربنا صفحاً عن الجدال السّياسيّ -فلعلّه أيديولوجيّ أكثر منه ثقافيّاً- فإنّنا نعرف أنّ موقف النّهضة من فكر المصلح الطّاهر الحدّاد، مثلاً، هو موقف سلبيّ جدّاً، منتقد ومهاجم، في حين أنّ الحدّاد هو أبرز ممثّل للإصلاح الزّيتونيّ. وبعبارة أخرى، لو كانت حركات الإسلام السّياسيّ معتدلة، كما يزعم بعضها، لذابت ثقافيّاً في جلّ المبادئ الثقافيّة لحركات التّحرير وبناء الدّولة، لأنّ هذه المبادئ استندت إلى مقولة الإسلام المعتدل. 
*إلى ماذا تردّين تأزّم العلاقة بين رموز الحركات الإسلاميّة وبين النّخب الثقافيّة المستنيرة في المجتمعات العربيّة؟ 
- هذا السّؤال يحيل ضمنيّاً على المسألة السّفسطائيّة القديمة حول أسبقيّة البيضة أو الدّجاجة. فهل النّخب الثّقافيّة المستنيرة تُعرض عن الحركات الإسلاميّة لأنّها تحكم عليها منذ البدء وتصمها سلباً، أم هل حركات الإسلام السّياسيّ هي الّتي تعجز طروحاتها عن استيعاب الفكر المستنير؟ لا يمكن للنّاظر أن يتجاهل ندرة النّخب الفكريّة داخل الحركات الإسلاميّة، وحتّى النّخب المعترف بها والحاملة لنفس إسلاميّ تجدها بعيدة عن ممارسة السّياسة في أطر هذه الحركات. ربّما لأنّ الحركات الإسلاميّة تقوم على مبدأ ذوبان الفرد داخل المجموعة. وكلمة «ذوبان» هنا يجب أن تُفهم في معناها الأقصى، أي في غياب أيّ تلوين فرديّ وموقف نقديّ وقراءة مختلفة داخل الحركة، إلاّ إذا ما كان متّفقاً عليه سابقاً في إطار التّقيّة، أو الاستراتيجية السّياسيّة. لا ننسى أنّ تنظيم «الإخوان» معروف باسم «الجماعة»، وولاء الفرد للمجموعة من دعائمه العميقة. أمّا النّخب المستنيرة، فهي عادة تؤمن بالحرّية الفرديّة والإبداع الشّخصيّ. وهي وإن اتّفقت على مبادئ عامّة وأسس مشتركة، تترك دوماً مجالاً داخلها لاختلاف الأصوات وتنوّعها وتعدّدها، ولذلك يعسر لكلّ من كان متشبّثاً بفكر نقديّ حرّ أن يكون حبيس انتماء منمّط، وأن يتخلّى طوعاً عن تحليقه في فضاء الحرّية. 

لا إيمان لهم بالوطن 
* كيف تنظرين إلى علاقة حركات الإسلام السّياسيّ بالانتماء الوطنيّ؟ 
أدبيّات حركات الإسلام السّياسيّ تقرّ بأنّها حركات لا تؤمن بمفهوم الوطن. وهي في ذلك متجانسة مع مبادئها الأساسيّة القائمة على تحقيق الحكم بالإسلام (كما يرونه) في كلّ البلدان. ومن هنا، ففكرة الوطن هي فكرة صغيرة وضيّقة بالنّسبة إلى الإيديولوجيا الشّموليّة للإسلام السّياسيّ. هذه الإيديولوجيا تقوم على مفهوم الأمّة، وتؤمن بأنّ الحدود هي صنيعة الاستعمار، وتعتقد أنّ علاقات الأخوّة القائمة على الانتماء الدّينيّ (بالمفهوم الّذي يرونه) أهمّ من أيّ علاقة أخرى. وهذا بشكل مّا منطقيّ لأنّ مفهوم المواطنة يقوم على المساواة التّامّة أمام القوانين الوضعيّة، والإسلام السّياسيّ بحكم مرجعيّاته المتّصلة لا يؤمن بالمساواة التّامّة بين المرأة والرّجل، مثلاً، بما هما مواطنان. ثمّ إنّ قيام الإسلام السّياسيّ على افتراض أنّ تطبيقه للإسلام عبر أحكام السّياسة هو التّطبيق الأمثل، يجعله يقصي بالقوّة أصحاب الدّيانات الأخرى، أو اللاّدينيّين، ويجعلهم في مرتبة دنيا شبيهة بمرتبة أهل الذّمّة عبر التّاريخ الإسلاميّ. 

الإسلام وبناء مشترك إنسانيّ
*هل يمكن أن يكون الدين مخلّصاً للعرب من تشتّتهم؟ وهل يمكن التّعويل عليه لضمان علاقات حسن الجوار؟
يحفظ جلّ المسلمين كثيراً من الأحاديث النّبويّة، ويستندون إليها بصفتها من مصادر التّشريع. لكن يبدو أنّهم ينسون أو يتناسون الحديث الجوهريّ الّذي يحدّد غاية الرّسالة الإسلاميّة، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق». هذا البعد الأخلاقيّ القائم على الاستقامة هو ما أهمله جلّ المسلمين، وهو ما أسمّيه بالبعد الرّوحانيّ. البعد الرّوحانيّ ليس مجرّد اعتقاد نظريّ، وإنّما يتجسّم سلوكاً وعملاً فعليّاً. ومن هذا المنظور يمكن أن يكون الإسلام ضامناً لحسن الجوار، ويمكن أن يقيم بين المسلمين، بل وسواهم من البشر، عقداً أخلاقيّاً بشريّاً قوامه الاحترام وحلّ المشاكل والخلافات بالعقل والحسنى والحكمة. «ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً». وفي مقابل ذلك، فإذا بقي الإسلام مجال تجاذبات سياسيّة، إذا كان كلّ طرف يدّعي أنّه هو وحده من يمثّله، أو إذا كان منطلقاً لإقصاء المختلف، فسيظلّ محكوماً علينا، مثل «سيزيف»، أن نعيد إنتاج الخلافات التّاريخيّة والصّراعات على المعنى، الّتي كثيراً ما تتحوّل، وللأسف، إلى صراعات سياسيّة فعليّة قد تبلغ حدود الاقتتال. وحينها، فإنّ ما كان فرصة تاريخيّة للتّقارب وبناء مشترك إنسانيّ مستلهم من روح الإسلام، يتحوّل إلى سلاح فُرقة وخصومة وتناحر باسم الدّين.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©