الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

إدغار موران: الوباء أيقظ روح التضامن

إدغار موران: الوباء أيقظ روح التضامن
24 سبتمبر 2020 00:58

ترجمة - مدني قصري

في خضم الوباء، يظل الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع إدغار موران ‏Edgar Morin ‬مُخْلِصاً ‬لرؤيته ‬العالمية ‬للمجتمع. ‬يُخبِرنا ‬أنّ ‬أزمة ‬الوباء ‬يجب ‬أن ‬تُعلّمنا ‬أن ‬نفهم ‬العِلم ‬بشكل ‬أفضل، ‬وأن ‬نتعايش ‬مع ‬عدم ‬اليقين، ‬وأن ‬نفتش ‬عن ‬شكل ‬من ‬أشكال ‬الإنسانية. ‬هذه ‬المقابلة، ‬التي ‬نُشرت ‬مؤخراً ‬في ‬موقع ‬lejournal.cnrs.fr، ‬هي ‬واحدة ‬من ‬أكثر ‬عشر ‬مقالات ‬قراءةً ‬على ‬الموقع ‬هذا ‬العام... وهنا نص المقابلة:

* لقد أعاد وباء فيروس كورونا العِلم بشكل وحشي إلى مركز المجتمع. فهل سيخرج هذا المجتمع متحوِّلاً من هذا الوباء؟
** ما يذهلني هو أن جزءاً كبيراً من الجمهور يرون أن العِلم ذخيرة من الحقائق المطلقة، وتأكيدات لا يمكن دحضُها. وقد اطمأنّ الجميع لرؤية الرئيس (أي رئيس جمهورية) وقد أحاط نفسه بمجلس علمي. ولكن ماذا حدث؟ سرعان ما أدركنا أنّ هؤلاء العلماء كانوا يدافعون عن وجهات نظر مختلفة للغاية، وأحياناً متناقضة، سواء فيما يتعلق بالتدابير التي يتعيّن اتخاذها، أو العلاجات الجديدة المحتملة للاستجابة لحالة الطوارئ، أو صلاحية دواء معين، أو مدة التجارب السريرية التي سيتم إجراؤها... وكل هذه الخلافات تثير الشك في أذهان المواطنين.‏‭

‬تغيير النظرة إلى العلم
* أتقصد أنّ الجمهور معرّضٌ لخطر فقدان الثقة في العِلم؟
** لا، إذا فهِم هذا الجمهور أنّ العلوم تعيش وتتقدّم من خلال الجدل والنقاش. المناقشات حول عقار «الكلوروكين»، على سبيل المثال، أثارت مسألة البديل بين الطوارئ أو الحذر. لقد شهد المجتمع العلمي بالفعل خلافات قوية، عندما ظهر الإيدز لأوّل مرة في الثمانينيات، وما أظهره لنا فلاسفة العلم هو بالتحديد أنّ الجدالات هي جزء متأصِّل من البحث. بل وحتى البحث نفسه يحتاج إلى مجادلات، لكي يتقدّم.
ولسوء الحظ، عددٌ قليل جداً من العلماء قرأوا كارل بوبر ‏‭ ‬Karl popper، ‬الذي ‬أثبت ‬أن ‬النظرية ‬العلمية ‬ليست ‬كذلك ‬إلا ‬إذا ‬كانت ‬قابلة ‬للدحض، ‬وغاستون ‬باشلار Gaston Bachelard، ‬الذي ‬طرح ‬مشكلة ‬تعقيد ‬المعرفة، ‬أو ‬توماس ‬كون ‬Thomas Kuhn، ‬الذي ‬أظهر ‬بوضوح ‬كيف ‬أنّ ‬تاريخ ‬العلم ‬عملية ‬متقطعة. ‬الكثير ‬من ‬العلماء ‬يجهلون ‬مساهمة ‬علماء ‬المعرفة ‬العظماء، ‬ولا ‬يزالون ‬يعملون ‬ضمن ‬منظور ‬عقائدي ‬ثابت.

* هل من طبيعة الأزمة الحالية تغيير وجهة نظر العلم هذه؟
** لا يمكنني التنبؤ بذلك، لكني آمل في أن تساعد في الكشف عن أنّ العلم أكثر تعقيداً مما يحلو لنا أن نظن -سواء وضعنا أنفسنا إلى جانب أولئك الذين ينظرون إليه ككتالوج للعقائد، أو إلى جانب أولئك الذين لا ينظرون إلى العلماء إلا كـ«دجـالين» (كما هو في مسرحية «المريض الوهمي» عند موليير)، يتناقضون بلا انقطاع.
أتمنى أن تكشف هذه الأزمة أن العلم أكثر تعقيداً ممّا تعتقد. فالعلمُ واقع إنساني، يقوم، مثل الديمقراطية، على جدل الأفكار والمناقشات، وإنْ كانت طرق التحقّق منه أكثر صرامة. وعلى الرغم من ذلك، تميل النظريات الكبرى المقبولة، إلى أن تصبح عقائدية، وقد كافح المبتكرون العظام دائماً لكسب الاعتراف باكتشافاتهم. ولذلك قد تكون الحلقة التي نمرّ بها اليوم هي الوقت المناسب لجعل الناس العاديين، والباحثين أنفسهم، على دراية بضرورة فهمِ حقيقة أنّ النظريات العلمية ليست مطلقة، مثل عقائد الأديان، ولكنها قابلة للتحلل الحيوي (‬أو التحلل ‬البيولوجي)‬.

* الكارثة الصحية، أو حالة الحظر غير المسبوقة التي نمرّ بها حالياً: ما هو برأيك الأمر الأكثر لفتاً للانتباه في الحالتين؟
** ليست هناك حاجة لإنشاء تسلسل هرمي بين هاتين الحالتين، لأن تسلسلهما كان ترتيباً زمنياً ويؤدي إلى أزمة يمكننا أن نقول إنها أزمة حضارة، لأنها تُجبرنا على تغيير سلوكنا، وتغيير حياتنا. محلياً وعالمياً. كل شيء بات معقداً. إذا أردنا أن نرى الأمور من وجهة نظر فلسفية، فعلينا أن نحاول الربط بين كل هذه الأزمات، والتفكير قبل كل شيء في عدم اليقين، الذي هو خاصيتها الرئيسة.
والأمر المثير للاهتمام للغاية، في أزمة فيروس كورونا، هو أننا ما زلنا غير متأكدين من أصل هذا الفيروس، ولا من أشكاله المختلفة، ولا من الجماعات السكانية التي يهاجمها، ولا من درجات ضَرره... ولكننا نمرّ أيضاً بحالة عدم يقين كبيرة بشأن جميع عواقب الوباء في جميع المجالات، الاجتماعية والاقتصادية.. وغيرها.

التعايش مع عدم اليقين
* لكن كيف يمكن لهذه الشكوك أن تشكل، في رأيك، الرابط بين كل هذه الأزمات؟
** لأنه يجب أن نتعلّم قبولها والتعايش معها، على عكس ما زرعته حضارتُنا فينا من الحاجةَ إلى المزيد من ألوان اليقين بشأن المستقبل، التي غالباً ما تكون وهميّة، وأحياناً تافهة، عندما وصفوا لنا بدقة ما سيحدث لنا في عام 2025! يجب أن يذكرنا وصول هذا الفيروس بأنّ عدم اليقين يظل جزءاً منيعاً من حالة الإنسان. فجميع التأمينات الاجتماعية التي يمكنك الاشتراك فيها لن تكون قادرة أبداً على ضمان عدم إصابتك بالمرض، أو بأنك ستكون سعيداً في حياتك الزوجية! نحاول أن نحيط أنفسنا بأكبر قدر ممكن من اليقين، ولكن الحياة في النهاية هي الإبحار في بحر من عدم اليقين، عبر الجزر الصغيرة وأرخبيلات اليقين، التي نعيد التزود بالوقود عليها.
* هل هذه قاعدتك في الحياة؟
** إنها بالأحرى نتيجة تجربتي. لقد شاهدت الكثير من الأحداث غير المتوقعة في حياتي -من المقاومة السوفييتية في الثلاثينيات، إلى سقوط الاتحاد السوفييتي، حتى لا أذكر سوى حقيقتين تاريخيتين غير متوقعتين قبل مجيئهما. أنا لا أعيش في حالة كرب دائم، ولكنني أتوقع حدوث المزيد، أو الأقل من الأحداث الكارثية. أنا لا أقول إنني توقّعت الوباء الحالي، ولكنني كنت أقول، على سبيل المثال، منذ عدة سنوات، إنه مع تدهور محيطنا الحيوي، يجب أن نستعد للكوارث. نعم، إنها جزء من فلسفتي: «توقع ما هو غير متوقع».
وبالإضافة إلى ذلك، أشعر بالقلق بشأن مصير العالم بعد أن فهمت، من خلال قراءة ‏Heidegger ‬في ‬عام ‬1960، ‬أننا ‬نعيش ‬في ‬العصر ‬الكوكبي، ‬ثم ‬في ‬عام ‬2000 ‬أن ‬العولمة ‬عملية ‬يمكن ‬أن ‬تسبّب ‬ضرراً ‬بقدر ‬ما ‬تنفع. ‬ألاحظ ‬أيضاً ‬أن ‬الاندفاع ‬غير ‬المنضبط ‬للتطور ‬التقني ‬الاقتصادي، ‬مدفوعاً ‬بتعطشٍ ‬غير ‬محدود ‬للربح، ‬تعزّزه ‬سياسة ‬نيوليبرالية ‬معمّمة، ‬أصبح ‬ضاراً، ‬ويسبّب ‬أزمات ‬من ‬جميع ‬الأنواع ... ‬منذ ‬تلك ‬اللحظة ‬فصاعداً، ‬أصبحت ‬مهيّئاً ‬فكرياً ‬لمواجهة ‬ما ‬هو ‬غير ‬متوقع، ‬ولمواجهة ‬التقلبات، على أية حال.

تغيّرات عميقة
* هل نتّجه، إذن، نحو تحوّل اقتصادي؟
** غالباً ما تكون لنظامنا القائم على التنافسية والربحية عواقب وخيمة على ظروف العمل. يمكن أن تساعد الممارسة الهائلة للعمل عن بعد، الناتجة عن الحظر، في تغيير الطريقة التي تعمل بها الشركات التي لا تزال هرمية أو استبدادية للغاية. قد تؤدي الأزمة الحالية أيضاً إلى تسريع العودة إلى الإنتاج المحلي، والتخلي عن صناعة الأشياء ذات الاستعمال لمرّة واحدة، التي يمكن التخلص منها بالكامل، مع منْح العمل للحرفيين والشركات المحلية في الوقت نفسه. وفي هذه الفترة التي أصبحت فيها النقابات ضعيفة للغاية، فإن كل هذه الإجراءات الجماعية هي التي يمكن أن تؤثر على تحسين ظروف العمل.

* هل نحن إذن بصدد تغيير سياسي تتغير فيه العلاقة بين الفرد والجماعة؟
** ظلت المصلحة الفردية تسيطر على كل شيء، والآن استيقظت روح التضامن. انظُر إلى عالم المستشفيات: كان هذا القطاع في حالة من الخلافات والاستياءات العميقة، ولكن، في مواجهة تدفّق المرضى، بات هذا القطاع يُظهِر تضامناً غير عادي. فالسكان حتى بعد أن أصبحوا محصورين، فهموا ذلك جيداً، وصاروا في المساء يمدحون عن طيب خاطر، كل هؤلاء الأشخاص الذين يكرسون أنفسهم، ويعملون من أجلهم. إنها، بلاشك، لحظة تقدّم. أنا لا أقول إنه من الحكمة أن تمكث في غرفتك طوال حياتك، ولكن إذا كان الأمر يتعلق فقط بنمط الاستهلاك أو الغذاء، فقد يكون هذا الحظر هو الوقت المناسب للتخلص من كل هذه الثقافة الصناعية التي نعرف رذائلها.
ولسوء الحظ، لا يمكننا التحدث عن صحوة التضامن البشري أو الكوكبي، بشكل كامل. ومع ذلك، كنا بالفعل، كبشر من جميع البلدان، نواجه نفس المشاكل في مواجهة التدهور البيئي أو السخرية الاقتصادية. بينما اليوم، من نيجيريا إلى نيوزيلندا، نجد أنفسنا جميعاً محصورين، يجب أن ندرك ونعي أن أقدارنا متشابكة، سواء أحببنا ذلك أم لا. سيكون هذا هو الوقت المناسب لتجديد إنسانيتنا، لأنه طالما لا نرى الإنسانية كمجتمع مصير واحد، فلن نتمكن من دفع الحكومات للعمل في اتجاه الابتكار.

الحب والصداقة واتحاد الآراء تصنع جودة الحياة
* ما الذي يمكن للفيلسوف أن يعلمنا إياه لتجاوز هذه الفترات الطويلة من الحظر؟
** صحيح أنه بالنسبة للكثيرين منا الذين يعيشون معظم حياتهم بعيداً عن المنزل، فإن هذا الحظر المفاجئ يمكن أن يكون مصدر إحراج رهيباً. أعتقد أنه يمكن أن يكون فرصة للتفكير والتساؤل عما هو تافه أو غير ضروري في حياتنا. أنا لا أقول إن الحكمة هي البقاء في غرفتك طوال حياتك، ولكن إذا كان الأمر يتعلق فقط بالطريقة التي نستهلك بها أو نأكل، فربما حان الوقت الآن للتخلي عن كل هذا. الثقافة الصناعية التي نعرف رذائلها، وحان الوقت للتخلص من السموم. إنها أيضاً فرصة لنكون مدركين بشكل دائم لهذه الحقائق البشرية التي نعرفها جميعاً، ولكنها مكبوتة في عقلنا الباطن:إن الحب والصداقة واتحاد الآراء والتضامن هي ما يصنع جودة الحياة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©