السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

شراهةُ الكتابةِ

شراهةُ الكتابةِ
30 سبتمبر 2020 21:30

أيُّ شيءٍ في العالَم تبلُغُه الكتابةُ تملِكُه. ففي الكتابة الأدبيّة يَفْنى العالَمُ الواقعيُّ في اللغة ببراعةٍ وبلا أوجاعٍ، ذلك أنها بقدر ما تقضمُه من أطرافه قطعةً قطعةً، يكون هو مفتوناً بذوبانه فيها كلمةً كلمةً، فلا يعلَمُ صورةً لمنتهاه. لا أحَد أكثر شراهةً في تملُّك العالَم من الكتابةِ، لا أحد حتى الإنسان. ولكن: ما معنى أن تملِكَ الكتابةُ العالَم؟ أنْ تملِكَه يعني أنْ تسحَبَه إليها، ذلك أنّ المرءَ حين يكتُبُ عن شيءٍ في العالَم، فإنّما هو يُرحِّلَه من حيِّزِ الحقيقة إلى حيِّزِ الرَّمز، أيْ يُحوِّلَه إلى لا شيء، إلى وهمٍ مرسوم بالحروف رسماً تَتَحرَّرُ فيه ظُنونُ القُرّاءِ، وتكثُرُ حولَه حروبُ تأويلهم.

وفي أفق هذا الترحيل، لا يكون وَكْدُ الكتابة أنْ «تمحو وهمَ الأصل» (أيْ: مقولة الأصل)، وإنما وكدُها أن تمحو الأصلَ نفسَه وتحتفي بوهمِه، إنّ الكاتبَ إذْ يكتُبُ العالَم الواقعيَّ، وهو لا يستطيعُ أن يكتب إلاّ عالَمه الواقعيَّ، إنّما هو يتحوّل في الآن ذاته إلى رمزٍ من رموز ما يكتُبُ، ومن ثمة يصير داخلَ نصِّه، بمعنى: يصيرُ خارجَ العالَم، وكأنه يتطهّرُ منه. وعليه، فإنّ مع كلّ نصٍّ يُكتَبُ ينتهي شيءٌ من العالَمِ، فلا يبقى منه إلا فعلُ قراءته.

شجرة من وَهْمٍ
إنّ كتابةَ العالَم أدبيّاً، من حيث هي فعلٌ إبداعيٌّ شاقٌّ، شأنٌ لا يقدر على إنجازه إلاّ الكاتبُ الذي يكتب وكأنْ لا سماءَ فوق رأسه، وهو ذاك الذي يتنبّه لفوضى العالَمِ وهَناتِه، فيتصيّدُها، ثم يعبُرُ بها إلى عالَم الخيال، وهناك يكشف بجُرأة فنيّةٍ عن أسبابِها، ويستنهض ممكنات انتظامها من جديد في معيش الناس، فإذا عالَمُ الخيال يعدِّلُ بالقراءة عالَمَ الواقع: يصفّيه من شوائبه وهَناتِه. ومثال ذلك هو أنّ الشجرة التي أنظر إليها الآن من شُبّاك مكتبي، لا يمكن أن تقبل تأويلاً آخر، عدا كونها الشجرة التي أنظر إليها الآن من شُبّاك مكتبي، وحين أكتبها للقرّاء فإني أستدرجهم إلى تأويل شجرة مصنوعة باللغة، أيْ: شجرة من وَهْمٍ، وحينئذ يكون لكلّ واحد منهم شجرته، وَفْقَ استعداده القرائيّ لما كتبتُ له عن شجرتي. وسيكون أمام القارئ منهم أمران في التعاطي مع شجرة الكتابة: فإمّا أن يستمتع بشدو العصافير فوق أغصانها، ويحاول، كالأطفال، أن يرميها بالحجارة ليُسقط ثمارَها، وسيكون واهماً في ذلك لأنها عاليةٌ في اللغةِ، وبعيدة فيها عن مرمى حجارته، وإمّا أن يشغف بها، ويسعى إلى استزراع أمثالِها في واقعه. وإنّ هذي هي بطولةُ الكتابة، وهي أيضاً من أصدقِ نِيّاتِها.

نِيّةَ النَّصِّ
«نَوَى» (وانْتَوى) فعلٌ آدميٌّ يصعبُ أنْ يُعوِّضَ فيه واحدٌ من الناسِ واحداً آخرَ، أيْ: لا يستطيع أن ينوي أحدُنا شيئاً بدلَ غيره. وهو بهذا فعلٌ محميٌّ من الانتحال، ومسؤولٌ وَفْقَ قانون «وإنّما لكل امرئٍ ما نوى»، قال الشافعي: «هذا الحديثُ ثُلُثُ العلم، ويدخل في سبعين باباً من الفِقْه» (وهو ما يؤكّد أنّ في الفقهَ من نيّاتُ الفقهاءِ). واقعيّاً لا يُسمَعُ للنيّة صوتٌ وهي تتشكّل في اللغة، وغالباً ما تكون محمولةً في همسٍ قليلِ اللفظِ، وملفوفةً بالسِرِّ، لأننا لا ننوي أمراً إلا في مَقام الوِحدة، وغالباً ما يحدث ذلك في جُنحِ الظلام (النيّات المُبيَّتة). ولا يُتستَّرُ على النيّاتِ خوفاً منها، وإنما خوفاً عليها، لأنها تقع دائماً في جهةِ ما يمكن أن يُحارَبه الناسُ لجُرأتِه، فالمُشاعُ لا يُنْتَوَى وإنما يُنْجَز مباشرةً وجهاراً. وبسبب من ذلك، كانت للنيّة رغبةٌ كبيرة في إخفاءِ ملامحها ومضمونها، ونحتاج معها، حتّى نتعرَّف غايتَها، إلى أنْ نتعرّفَها هي ذاتَها في النصوص، أيْ: أنْ نقرأَها، لأنّ نِيّةَ النَّصِّ تظلُّ تَخِزُ جسدَه في الخفاءِ وخزاً مُرّاً إلى أنْ يُقْرأَ، فإذا قُرِئَ استعرت حربُ نيّاتِه خارجَه: بين القّراء. والحقّ أننا لا نقرأ النيّةَ إلاّ متى وصفناها، كأنْ نقول هي نيّة حسنة أو هي نيّة سيّئة، فلا توسُّطَ في النيّات، غير أنّ وصفَ النيّة إنّما هو وصف انطباع القارئ عنها وليس وصفاً لها هي في ذاتها، لأنها في النصِّ لا تُرى أو تُقالُ وإنّما يُوحَى بها عبر فنونِ الكلام. ومن ثمّة فالنيّة في النصّ الأدبيّ هي عجينةُ المعنى الذي سيبنيه القارئُ، وحينئذ فليست النيّةُ في الأدب إلاّ نيّةَ مَن يقرَؤها.

مَن ضاق صدرُه اتّسع لِسانُه
والنيّاتُ فضاءُ الإبداعِ، هي فضاؤنا المتخيَّلُ الذي نفكّ فيه ارتباطَنا مع الرأيِ العامِّ السائد لنشكَّ في حركةِ الواقعِ بعيداً عن سدنتِه ولألأةِ إشهاراته، ولنُحرِّرَ فيه مقاصدَنا في الحياةِ، كتابةً أو رسماً أو لحناً أو حركةً. وهذا التحريرُ يُنجِزُه المبدِعُ باستدعاء الواقعِ من حيّز واقعيّتِه إلى حيّز الفكرِ كما مرّ معنا، يستدعيه إليه عارياً ومنزوعاً من سُلطانِه، وفي لحظة الاستدعاءِ تلك تحضر الكتابةُ بكلّ ظنونِها ونيّاتِها. ومعروفٌ أنّ الظنونَ وَلودٌ، وتتنامى في الكتابة وتطول ألسنتُها كلّما حلّت أوقاتُ الجَدْبِ والخوفِ وضيقِ الآفاقِ، ويُسعفني في هذا المقام قول التوحيديّ: «مَن ضاق صدرُه اتّسع لِسانُه» في تأكيد حقيقةِ أنّ نسلَ الظنون الآدمية لا يفنى طالما بقي في الإنسان ارتيابٌ من حُسن جريانِ منظومات معيشه، لأنّ الظنون لا تتخلّق عند المطمئنِّ إلى وقتِه من الناسِ: فالمطمئنُّ إلى الدّنيا، إنما هو كائنٌ شحميُّ الجسدِ واللغةِ، هو كائنٌ بلا قلبٍ. 

جرح المعنى
وإنه متى عجزت نيّةٌ من نيّاتنا عن التحقّق في الواقع، سكنت الذاكرةَ وسُمِّيتْ حَسْرةً، وظلّت -كالحُبِّ العذريّ- حيَّةً تجرح بأظْفارها وعيَ الذين «إذا أحبّوا ماتوا». وربّما لاحظتُم، مثلما لاحظتُ، أنّ أغلبَ مكتوبنا الأدبيّ مجروحة معانيه من كثرةِ حَسْرته على قِلَّةِ تدبُّره بالقراءة، أيْ: لعدم تنزيلِ نيّاتِه إلى ميادين الواقع.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©