الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

توفيق صايغ.. الكون الشعري

توفيق صايغ.. الكون الشعري
22 أكتوبر 2020 01:16

لم يترك الشاعر توفيق صايغ (1923 - 1971) أمراً إلا وفعله ليثبت «ندرته» وخصوصيته داخل مشهد الحداثة الشعرية العربية. فهو كان الرائد الأول لقصيدة النثر العربية بمجترحها الإبداعي المتمكّن، وقبل أيّ من الشاعرين الكبيرين: أنسي الحاج ومحمد الماغوط، وقد عرّفها بكلمات غاية في البساطة والوضوح: «إنها القصيدة الخالية من الوزن والقافية وذات الطاقة الإيحائية العفوية التي تبزّ بها نظيرتها المقفاة الموزونة». جاء ذلك على لسان صديقه الناقد جبرا إبراهيم جبرا في حوار كنت أجريته معه في منزله في بغداد عام 1981 ونشرته في مجلة «الكفاح العربي» اللبنانية.
كما يعتبر توفيق صايغ أول من أدخل أسطورة «الكركدن» على خطاب الشعر العربي الحديث ومنحها مكاناً شعرياً لائقاً بها، خصوصاً في ديوانه «معلقة توفيق صايغ». وهو من جهة أخرى، يعتبر شاعر الصوفية العربية المسيحية بامتياز. كيف لا وقد تنشّقها من قلب بيته مباشرة، فهو ابن القس المسيحي البروتستانتي عبدالله صايغ المعروف بانفتاحه الصادق والأثيري على الأديان السماوية، والذي ربّى ولده على ثقافة التسامح والرسوليّة الحانية على الإنسان وسائر الكائنات.

اغتراب مثلث الأضلاع
وكان توفيق صايغ شاعر الاغتراب والمنفى على نحو تراجيدي غير مسبوق في الشعر العربي المعاصر، واغترابه مثلث الأضلاع: تجاه الوطن وتجاه الحبيبة وتجاه المآل. وربما تكون تجربته الشعرية برمتها قد قامت على قصيدة واحدة تشمل فضاء هذا المثلث المتداخل، المنشبك على نحو لا يمكن الفصل بين عناصره البتة، ولا بالتأكيد بين دواوين الشاعر الثلاثة: «ثلاثون قصيدة»- 1954، «القصيدة ك»- 1960، و«معلقة توفيق صايغ»- 1963. عاش توفيق صايغ غريباً ومات غريباً، وبدل أن يدفن في فلسطين أو سوريا أو لبنان، حيث ولد وترعرع وشبّ وتعلم، اختار له القدر أن يموت في كاليفورنيا في الولايات المتحدة وعن عمر قصير: 47 عاماً. وتشاء المصادفات أن يدفن في مقبرة تسمّى «مقبرة الغروب»، مطلة على المحيط الهادئ، عن يمين قبره، قبر لرجل صيني وعن يساره قبر لرجل ياباني.

 شعرية المنفى وطقوس الغروب
 حول عالم توفيق صايغ وكونه الشعري، نلتقي بالكاتب الفلسطيني/‏‏‏‏‏ اللبناني محمود شريح، كونه الوحيد المختّص بهذا الشاعر الكبير والمؤسّس في مدونة الشعر العربي الحديث. وقد وضع شريح كتاباً عن توفيق صايغ سمّاه «سيرة شاعر ومنفى» - 1997. واكتشف له أشعاراً مجهولة نشرها أيضاً في كتاب تحت عنوان: «التوفيقيات المجهولة» - 2010.
ومحمود شريح يمتلك حساسية ثقافية معمّقة ووعياً تنويرياً عالياً، جعلاه يعاين بالنقد والتصويب مسار الحداثة الشعرية العربية وتجارب رموزها الكبار، وفي الطليعة بينهم توفيق صايغ الذي قال فيه سعيد عقل «هذا الفتى المحرور العينين من أجرأ الأصوات المشرقية».

في ما يلي نص الحوار: 
* محمود شريح.. أنت أول من اهتمّ عربياً بالكون الشعري الخاص بالشاعر توفيق صايغ: سيرة ودراسة وتوثيقاً واكتشافاً لقصائد جديدة له. لا بأس، ما الذي دفعك إلى هذا العمل الثقافي الجدي، المسؤول والكبير؟
** صباح يوم أحد في بيروت وقَعْتُ في ملحق صحيفة «النهار» اللبنانية (9/‏‏‏‏‏1/‏‏‏‏‏1972) على قصيدة غزل مُرّ للشاعر توفيق صايغ، فَسَرَتْ فيّ رعشة وانفتحت أمامي آفاق. كنت واقعاً آنذاك تحت تأثير الشاعر خليل حاوي بتشجيع من أستاذيّ رائف لبكي ونبيل رحّال، ومولعاً بالرومنطيقية بتأثير أستاذ ثالث في «الإنترناسيونال كوليدج» في بيروت، هو ألفريد خوري. احتفظت بملحق «النهار» وكنت كلّما قرأت غزلاً مراً، سَرَتْ فيّ الرعشة نفسها. ثم بدأ البحث عن توفيق صايغ. 
وجدت نفسي أتعامل مع شخصية فريدة وطريفة. عالم مغلق يصعب دخوله. شاعر مرهف ومنفي ويعاني وحدة صراعية داخلية عنيفة. صداقات عديدة وعلاقات نسائية متشعبة. متشرّب ثقافة شرقية وغربية. مغرق في تجديد شكل القصيدة ومضمونها. صديقه الكتاب ومهنته الشعر. أستاذ متفانٍ. مولع بالتقاط الصور غير التقليدية. يكره الرسميات. لا يدخّن. لا يقصّ شعره إلا مرة أو مرتين في السنة. أحبّ المقاهي. ابتعد عن الأضواء وانتمى إلى بساطة بوهيمية. يقضي الليل بطوله يقرأ. يفتّش في المكتبات عن جديدٍ يقرؤه، وإذا لم يجده خرج حزيناً. صادَقَ شعراء الحداثة وشجّعهم. روّج للشعر العربي المعاصر ودرّسه في بيروت وكامبريدج وكاليفورنيا. مترجم بارع وناقد متمكّن. عاشقّ، قصائدُه عاطفة ولوعة. أضناه ضياع الوطن فرثاه بأسى وحزن. هجره القدر، فأدرك اغترابه الأبدي. قصيدته مُرّة وعتابه غصّة وسيرته سِفر أيُوب.

* في ضوء توصيفك المعبّر هذا، إلى أي حد يمكننا القول إن تجربة الشاعر توفيق صايغ هي نسيج وحدها في مشهد الحداثة الشعرية العربية؟ فعلى ما يبدو لي هو شاعر الهامش لا شاعر المتن.. شاعر الاغتراب والمنفى لا شاعر الجمهور العريض والذوق السائد.. ماذا تقول؟. 
** كما هو كذا شِعره. توفيق صايغ منفيٌ بطبعه، فقصيدته بالتالي غربة. عاش في المنفى ودفن فيه. ولعلّه الشاعر الأكثر استغراقاً، حياةً وشعراً، في مفازة المنفى. أسْطَرَ حياته وأرّخها بالنار والجوهر الصلب. تشهد دواوينه الثلاثة، بدءاً من عام 1954 وحتى عام 1963، وعلى مدى قرن، تنامياً في العذاب وتصاعداً في الحصار. جمع الغربة من شتيت أطرافها. ولد في سوريا وترعرع في فلسطين، ودرس في لبنان، ثم أكمل علومه في الولايات المتحدة وإنجلترا.
هو شاعر فحل، وناقد طلعة، ومترجم فذّ، ومحرّر ماهر. وهو في آنٍ متبحّر في التراث العربي، قديمه وحديثه، وأستاذ جامعي فهّامة في الأدب المقارن.
أفنى سبعاً وأربعين سنة، هي كلّ حياته على هذه البسيطة، في كتابة قصيدة واحدة، ونذر حياته لها، هي قصيدة العشق النازف بتأثير فقدان أمه ووطنه وعشيقته، وهو الأقرب إلى أيوب في صبره وإرميا في مراثيه ودانيال في تيهه.

* كل قارئ متعمّق لقصائد توفيق صايغ، يلحظ تجنّبه الغنائية الشعرية التي ظلت تصحب تجارب معظم أقرانه من رادة الشعر العربي الحديث. لقد ذهب توفيق نحو ما يمكن أن نسميه «كتابة التفكّر الشعري» وبسط أنساقها متعددة الأصوات والانفعالات الداخلية المكبوتة والمعقدة.. ما تعليقك؟
** توفيق صايغ والشعر العربيّ الحديث توأمان، وكلاهما صنو المرحلة في بحثها أواخر الأربعينيات ومطلع الخمسينيات من القرن الماضي عن شكل ملائم يستوعب روحها ويستنفد مكنوناته في ضوء متغيّرات الحياة نفسها والعصر نفسه.
في نهاية عام 1953 صدرت مجلة «الآداب»، وفي شتاء عام 1957 صدرت مجلة «شعر»، ولكن في سبتمبر عام 1954 أصدر توفيق صايغ ديوانه الأوّل «ثلاثون قصيدة»، متخطّياً المدرسة الشعرية الحديثة في العراق ومبشّراً بولادة شكل شعريّ جديد رسّخته مجلة «شعر»، وأقصد هنا قصيدة النثر، التي يعتبر توفيق رائدها بامتياز قبل الشاعرين الكبيرين أنسي الحاج ومحمد الماغوط. هذا هو الإطار التاريخيّ لظهور توفيق صايغ وتجربته الشعرية.
هكذا إذاً، فديوانه «ثلاثون قصيدة» يعتبر أولى المحاولات العربيّة في كتابة قصيدة النثر المستفيدة من تقنيّات نظيرتها في الغرب، كيف لا وصاحبها درَس الشعراء الغربيين واختلف إلى محاضراتهم عن الشعر، وسبر بالنقد والتقييم شعريات المثاقفة عموماً في جامعات هارفرد وإنديانا وكاليفورنيا، وكان قد صادق بعض الشعراء الغربيين، وهو أستاذ في كيمبريدج في بريطانيا. 
 عام 1954، وهو عام صدور «ثلاثون قصيدة» كما أسلفنا، شهد انتقال توفيق صايغ من أكسفورد طالباً إلى كيمبريدج أستاذاً للأدب العربيّ حتى عام 1959. وفي منتصف تلك الفترة تعرّف توفيق إلى فتاة بريطانية خلّدها في ديوانه «القصيدة ك»، اسمها «كاي شو»، وقد عَرَفَها أصدقاؤه المقربون آنذاك: جبرا إبراهيم جبرا ورياض نجيب الرّيس وليلى بعلبكي. وقد شغلته «كاي» حتى الثمالة، فكرّس لها ديواناً حمل اسمها، صدر عام 1960 وتحوّل الشاعر من فرط عشقه لها إلى كائن مستلب، مبعثر، لا يلوي على شيء إلا بوصلتها، ولا يكترث بشيء إلا تجنّب خسرانها، حتى ولو أريق ماء وجهه بالكامل أمامها، وتحوّل إلى مجرد حطام يستجدي رضاها بأي ثمن:
«وتريد إن عيني أعثرتني أن أقلعها/‏‏‏‏‏ فخير أن أخسرها من أن أخسرك/‏‏‏‏‏ وماذا إن تكررت العثرات/‏‏‏‏‏ وانقلب كل عضو فيّ مُعثراً/‏‏‏‏‏ وماذا إن انتابتني حمّى/‏‏‏‏‏ القلع والقطع والبتر والاجتثاث/‏‏‏‏‏ ورحت أنثر الأعضاء/‏‏‏‏‏ كقروية تنثر الحبّ للدجاج».

* أنسي الحاج شاعرنا الكبير كتب يقول في شعرية توفيق صايغ: «تابع توفيق طريقاً واحداً في قول الشعر: طريق الحصى والشوك والوعر. كان يرفع الكلام كمن يرفع الصخر».. ما تعليقك؟
** هذا كلام في محله من التعيين، ذلك أن توفيق صايغ اختزل نفسه إلى قمّة تراجيدية وعرة ومرتبكة بعد مأساة غرام أضنته، كما كان ضياع وطنه من قبل أضناه، وانعكس ذلك كله على خطابه الشعري، فجاء كما جاء به، لكنه خطاب يظلّ له، أيضاً، حفره اللغوي الخاص، وجمالياته الخاصة، وإبداعيته التي تدلل على صاحبها وهويته كشاعر استثنائي. فتوفيق كان ضليعاً في محاورة ذاته لولبيّاً، والبقاء على الدوام في شباك التأرجح السيزيفي لقصيدته التي لا تعرف إلا مزيداً من تكسر الزمن وتبعثره في ذاته العميقة. ولا غرابة في ذلك على شاعر عاش ملحمة النفي الذاتي في قيعان ذاته المنفية بإرادتها عما حولها. ومن هنا نفهم ما جاء في بعض رسائله إلى صديقه جبرا إبراهيم جبرا: «النفي الداخلي أشدّ عندي من النفي عن الوطن»، فأمضى حياته القصيرة، هكذا متنقّلاً ومعذّباً:
كلّ ليلة من جديد/‏‏‏‏‏ أطارد، أحاكم/‏‏‏‏‏ أعذّب، أُقاد للمقصلة/‏‏‏‏‏ كل صبح من جديد/‏‏‏‏‏ أطارد ولا هارب/‏‏‏‏‏ أسعى ولا كأس/‏‏‏‏‏ أتعكز ولا محجّة/‏‏‏‏‏ أدوّم في فراغ/‏‏‏‏‏ لا أهدأ ولا أشلّ/‏‏‏‏‏ مُقعد ولا أهل/‏‏‏‏‏......../‏‏‏‏‏ كسيح ولا مسيح».

* انطلاقاً من هذه التجربة الوحيدة أو المستوحدة لتوفيق صايغ، بماذا تعلق على الرأي القائل إن الشعر العربي الحديث بمجمله، هو عبارة عن تجارب فردية متناثرة، ليس ما يجمع بين رموزها سوى التجديد وتجاوز القديم. إن كل شاعر منهم كان يعمل منفرداً ووفق تجريبيته الخاصة وعالمه التأملي الخاص؟
** تعب توفيق صايغ في سفره، لكنه صمد. طالت غربته، لكنه لم يسأم. عاش مُطارَداً ومُضطهَداً مثل النبي إرْميا، لكنه استطاع أن يفلت ويمضي مسرعاً مثل الكركدن، شبيهه في البحث عن الخلاص. الخلاص من رعب المصير، إلى جانب «الخلاص» بضرورة إبداع الجديد أيضاً. وهنا وجد بنفسه ضالته الشعرية التي تمثلت في أنه كان أول من أدخل أسطورة الكركدن إلى صلب الشعر العربي الحديث، وتحديداً في قصيدته «بضعة أسئلة لأطرحها على الكركدن» التي ظهرت في ديوانه «معلقة توفيق صايغ» (1963). وحين سأله الكاتب والإعلامي اللبناني جميل جبر عن تلك الأسطورة في معرض حديث معه لصحيفة «الجريدة» البيروتية (26. 5. 1963) قال توفيق: «أسطورة الكركدن فيما أعرف لا تعود إلى عهد الأساطير عند الأقوام القديمة الأولى، بل هي وليدة العصور الوسطى. الكركدن حيوان خيالي، صغير الحجم، وسيم، قوي، شرس، له قرن واحد في وسط رأسه، يحاول الصادة اقتناصه طمعاً في بيعه للملوك بغالي الثمن، لكنهم يعجزون دوماً عن اللحاق به، فيعمدون إلى الحيلة، ويضعون في طريقه عذراء.. تداعبه قليلاً إلى أن تتمكّن منه، ويفتك الصادة به». 
نعم، توفيق صايغ، هو خلاصة صوته الشعري الفريد بين رواد الحداثة الشعرية العربية. كما أن أقرانه يمثل كل واحد منهم عالماً شعرياً خاصاً به، إنْ على مستوى اللغة والرؤية وفرادة الصورة وخلاصات البناء الهندسي العام للقصيدة واستشراف مصيرها والتحامها بالعالم الخارجي أو انفصالها عنه. ومن هنا هم أغنوا الشعرية العربية الحديثة، كلٌّ بأسلوبه ومجترحة الإبداعي: من بدر شاكر السياب إلى أدونيس وخليل حاوي وأنسي الحاج ومحمد الماغوط وصلاح عبدالصبور، فضلاً عن محمود درويش وغيرهم.
وبالعودة إلى توفيق صايغ، فإن آخر قصيدة كتبها كانت في خريف عام 1970 في كاليفورنيا، وبعد قضائه صيفه الأخير في بيروت. وقد جاءت بمثابة شهادة على صدق نبوءته بقرب رحيله. كما عكست بإيحائها المكثّف موجز حياته المضطربة، فعاد فيها إلى نغمة المنفى والضياع وحالات التنافر وتنكّب الأسطورة والجو السريالي، ولم تغب عنه أيضاً صورة الوطن الضائع، فكان مثالاً في البحث الأبدي عن فردوس مفقود، دون أن يكلّ أو يستسلم:
يكلّ (ولا أكلّ) المركب/‏‏‏‏‏ ويسري الدم في عروقي/‏‏‏‏‏ وأسري في عروق البحار/‏‏‏‏‏ المرافئ ألغام يبثها الأعادي/‏‏‏‏‏ تجارب (لكل تجربة بجوف الصحارى على ملتقى البحر والبر اثنان)/‏‏‏‏‏ شيطان خلفهما/‏‏‏‏‏ وشيطان/‏‏‏‏‏ كلهم يريد روحي يريد المركب/‏‏‏‏‏ طعنة مجاذيفي/‏‏‏‏‏ تفلّ الحوافز المشققة والتراب/‏‏‏‏‏ قولبته لوّنته، الحوافز».

شعراء الصوفية المسيحية العربية
* لنتحدث عن الصوفية المسيحية كما تتجلّى في شعريات كل من: توفيق صايغ وأنسي الحاج ويوسف الخال وفؤاد رفقة؟
** لعل توفيق أقرب هؤلاء الشعراء إلى توظيف الرمز المسيحي بشكل حي ومباشر في قصائده، وهذا بالطبع مردّه إلى تنشئته، فوالده قسيس بروتستانتي على المذهب المشيخي، ومن هنا رأينا تأرجح شعره بين شبق ولاهوت، وبين خطيئة وبراءة ملائكية.
أما صوفية أنسي الحاج المسيحية، فكانت مبثوثة على مدار كلمات قصائده أو لغته وأدواته الشعرية بعامة، وكان فيها أقرب إلى أجواء التوراة، وإن لم يكن البتة توراتياً. وأنسي أصلاً شاعر وإنسان غير متدين، بل متمرّد على كل شيء، لكنه يظل أيضاً ابن البيئة المسيحية اللبنانية والمشرقية المنفتحة التي تنشد التغيير والحرية بوجوهها الكثيرة. 
أما في توزّعه الحبّي أو العشقيّ العام في قصائده، فقد كان أنسي الحاج يحاكي، وعلى طريقته، نشيد الإنشاد، وبخاصة في ديوانه «الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع».
وعند الشاعر يوسف الخال اتخذ الرمز المسيحي طابع الهجرة إلى الله. وكان في دواوينه عموماً وفي «البئر المهجورة» خصوصاً، مغروزاً بالتراث المسيحي القديم، وإن على «قاعدة» دمج الحاضر الآثم بالماضي البريء، وإيجاد، نوع من الوفاق الأبدي بينهما.
أما فؤاد رفقة، فحملت صوفيته المسيحية بعداً ميتافيزيقياً وفلسفياً وجودياً غائراً في الأسئلة التي تستخلص الأبدي حتى من العابر. ولا غرو، فهو على غرار «هلدرلين» الألماني العظيم يرى أن الإنسان مقيم في العالم شعرياً. 
وإضافة إلى هؤلاء الشعراء الأربعة، وظّف السياب وأدونيس وخليل حاوي وجبرا إبراهيم جبرا الرمز المسيحي، بشكل أو بآخر، كشبيه لأسطورة تموز التي هي عنوان الخصب والانبعاث والحياة الجديدة. ولذلك لقبوا (ومعهم شعراء آخرون أيضاً) بالشعراء التموزيين، الذين أكدوا في زمننا المنكوب هذا على التقدم والرقي والمدنيّة والحضارة، وأن الثقافة العربية الجديدة ستسهم بالضرورة في تكوين وعي عربي جديد من شأنه تغيير كل هذا البلاء الفظيع الذي نتخبّط فيه.

* لنتحدث عن قصة توفيق صايغ مع مجلة «حوار»، التي أشرف عليها منذ صدورها في مطلع ستينيات القرن الماضي وحتى توقفها في العام 1967؟ أي أضواء جديدة يمكن بسطها هنا على هذه القضية التي يذهب البعض إلى أنها أربكت هذا الشاعر وأربكت معه الكثير من محبّيه ومحبذيه؟
** في عام 1962 استقال توفيق صايغ من جامعة لندن وعاد إلى بيروت ليصدر مجلّة «حوار» التي أحدثت زوبعة فكريّة وثقافية لم تحدثها مجلّة فكرية وثقافية عربيّة من قبل. صدرت المجلّة بتمويل من «المنظّمة العالميّة لحريّة الثقافة» التي كانت تتّخذ من باريس مقرّاً لها. وشاركت فيها رموز فكرية وإبداعية عربية كبيرة من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد، إلّا أنّها حوربت منذ صدورها لارتباطها بالمنظّمة العالميّة تلك. وبدأت الحرب عليها من بيروت أولاً، ثمّ من القاهرة ثانياً وانتقلت العدوى بعد ذلك إلى العواصم العربيّة الأخرى. ورأى بعض المحلّلين آنذاك أنّ هذا الهجوم هو وليد تسلّم اليسار مقاليدَ الصحافة في القاهرة. وشاع أنّ المنظمة تموّلها جهات غربيّة بعينها. ولمّا تأكّد توفيق من ذلك، أصدر بيانه الشهير في مايو 1967 معلناً احتجاب المجلّة إلى أن يتوفّر لها تمويل عربيّ. 

* ماذا عن القصائد الخاصة غير المنشورة لتوفيق صايغ، والتي كنت أنت أول من اكتشفها؟.. وما هي إشكاليتك النشرية إزاءها مع رياض نجيب الريس؟ 
** حين كنت أعدّ كتابي «توفيق صايغ: سيرة شاعر ومنفى» (لندن - رياض الريّس للكتب والنشر- 1989)، عثرت بين أوراق الشاعر على تسع عشرة قصيدة مكتوبة بخط يده في أوقات مختلفة بين 1953 و1970، وهي غالباً غير منقحة. وكان الشاعر قد ذيّل معظمها بتواريخ كتابتها وأماكنها، وأضفت إليها قصيدته «جمان» التي كان قد نشرها في مجلة «صوت المرأة» (بيروت، مارس 1948). وما أن صدر كتابي «توفيق صايغ: سيرة شاعر ومنفى» عام 1989 حتى دفعت إلى ناشري الأستاذ رياض نجيب الريّس بتلك القصائد، على أن يصدرها على حدة، مع تقديم منّي لها، ولكنه أصدرها في مجموعة المجموعات الشعريّة الكاملة الخاصة بتوفيق صايغ (لندن - رياض الريّس للكتب والنشر- نيسان 1990) من دون المقدمة، وسها عن ذكر أني من عثر على تلك القصائد. 
 بعد ذلك، وقعت على أوراق جديدة للشاعر بينها ست قصائد لم يكن قد نشرها أو وضعها في صورتها النهائية بعد. ولأنها مكتوبة بخطّ يده، ويعود بعضها إلى بداية الخمسينيات، والبعض الآخر إلى نهاية الستينيات من القرن الماضي، فقد ارتأيت إثباتها على هيئتها الأصليّة، والتعليق عليها، ونشرها في كتاب أصدرته تحت عنوان: «التوفيقيات المجهولة: ست قصائد لتوفيق صايغ بخطّ يده.. شرح وتوضيح مع صُوَر ووثائق» (طبعة ثانية - بيروت - دار نلسن 2019).

كائن بلا وجه وبلا اتجاه
 * لكأنه مات قبل الموت توفيق صايغ. لقد تفرّد بالنفي الدرامي المستغلق قبل غيره من الشعراء المنفيين. وربما لهذا نفسر محاولته الانتحار أكثر من مرة؟ ثم هل نملك أن تحدثنا أكثر عن حبيبته الإنجليزية «كاي»، وإلى أي مدى كانت عاملاً درامياً من عوامل ابتعاث السأم فيه والرغبة في قتل معنى الحياة لديه؟
** يدور شعر توفيق صايغ في مجمله حول قضية الاغتراب.. الاغتراب تجاه الوطن، والاغتراب تجاه الحبيبة، والاغتراب تجاه الغيب. تشهد دواوين صايغ الثلاثة التي صدرت خلال عشرة أعوام (1954.1960.1963) خطّاً تصاعدياً واضحاً، ينطلق ببساطة وبراءة وينتهي بالتعقيد والتجربة المرّة. وهو في كل ما كتب من شعر، تراه يستكشف طرقاً مجهولة في التعبير، معلومة من ذاته المقهورة، حتى ولو تلبّست العدم الحائر!شعر توفيق، حتى وإن أبدى لك سهولة في مكان ما، إلا أنه خلاصة لتركيب معقد من التأمل في الذات والعالم والتعالي الضمني عليهما، ودائماً -وهنا المفارقة- من بوابة الحزن والانكسار. فالاغتراب لديه تحوّل إلى يقين حدسي كاسح، ظلّ يتجلى في كل معارك الكتابة لديه. كان ينظم معاناته داخل الجملة الواحدة، داخل الأسلوب الواحد، وبالتأكيد داخل الإيحاء الرمزي العام. 
العقل والقلب متمازجان فيه أبداً. ولذا نراه أحياناً وقد اختلطت لديه الأسباب بالنتائج.. والنتائج بالأسباب، وكل ذلك كان يتأتى من فرط المكابدة والانقسام على الذات، ذاته بالطبع.
وما دمت تسألني عن «كاي» هذه الصبيّة البريطانية التي وقع توفيق في غرامها لمدى حياتي ليس بالقليل ولا بالهيّن، بل كان لهذا المدى، في حقيقته، مفعول وطأة الزمن كله عليه، فإن تجربته الحبيّة معها قد أضنته وشَرَخَت وعيه ومشاعره كافة. نعم، لقد أرهقته «كاي» حتى الجنون المغرق، وحولته إلى كائن معطوب. وإذا كان الفرنسيون يطلقون على شاعرهم العظيم لويس آراغون لقب: «مجنون إلزا»، فإنه يصحّ لنا نحن العرب أن نطلق على شاعرنا توفيق صايغ لقب «مجنون كاي». آراغون أصدر ديواناً باسم معشوقته الحسناء الروسية إلزا، ومثله فعل الشاعر توفيق صايغ حين أصدر ديوانه «القصيدة ك». لكن حبّ الأول كان ناجحاً، بينما حب الثاني قاده إلى الفشل والهلاك. 
مهما يكن من أمر، فلقد شكّل ديوان «القصيد ك» لتوفيق صايغ تخليداً لذاته كعاشق غامض، ولحبيبته كامرأة استثنائية بين النساء.. وكذلك لفعل الهجر نفسه كحال شعرية لا تنفصل عن حياة شاعرنا، حتى وهو يتصدّى لقضايا الوجود والعدم والحياة والموت والظلم والعدل. لكأن توفيق تحول في «مرحلة كاي الدائمة» إلى شاعر بلا وجه، ولا اتجاه، ولا مصير.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©