الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الزمن المُنفلت والوجود المُعَلَّق

الزمن المُنفلت والوجود المُعَلَّق
3 ديسمبر 2020 04:10

محمد نور الدين أفاية

كيف يمكننا فهم زمنية نتوهم أننا ننتمي إليها ولكننا، تاريخياً وواقعياً، خارجون عنها؟ وإلى أي حد يمكن ادعاء تملُّك زمنية نحن لا نتحكم في مقوماتها وأسبابها؟ 
 سبق لمفكرين عرب طرح هذين السؤالين في سياقات مختلفة، ولكن بصياغات تربط بين الزمن والوعي التاريخي، وتساءلوا: هل حقاً يمتلك العرب وعياً تاريخياً، أو وعياً بالتاريخ واعتبار هذا الوعي عنصراً تفسيرياً للوجود؟ وقد واجه المفكرون العرب هذا السؤال، ومنهم عبدالله العروي منذ ستينيات القرن الماضي، وهشام جعيط وغيره بعد ذلك، من زاوية أن التاريخانية فهمٌ عصري للزمن وللعالم، وبأن الغرب الذي بلورها، نظرياً وحضارياً، أدخلها في قلب تاريخه الخاص وعمل على تعميمها على الآخرين، وما يزال، في حين أن الشرق العربي بقي زمنه شبه جامد، بل ويصنعه الآخرون في كل مرة، ويظهر أنه في حاجة مستدامة إلى آخر لكي يكون ويستمر، كيفما كان هذا الآخر. هذا ونحن نشهد بروز قوى عالمية جديدة تفرض نماذجها وسياساتها بطرق ناعمة تارة، وبأساليب قسرية تارة أخرى، وما زلنا قابعين في السلبية نفسها، اللهم إلا في حالات استثنائية.

ومن المؤكد أن الزمن لا يُعطى بشكل تلقائي والانتماء إليه ليس مجرد رجاء، أما عندنا فيبدو، في كل مرة، وكأنه مرتهَنٌ لتصورات دينية ومذهبية وسحرية، كان الناس، منذ منتصف القرن الماضي، يتصورون أنهم تبرموا منها وتحرّروا منها بفضل الاحتكاك بالمعرفة العلمية والفلسفية، وإذا بها تعود بشكل مدوٍّ، واجتياحي في أكثر البلدان العربية.
 يحصل هذا الارتكاس في أكثر الساحات العربية بسبب الصعوبات المتنوعة التي جعلتها خارج زمن العالم، وبسبب العوائق المختلفة التي تشهدها عمليات التحديث الفكري والثقافي، وأيضاً بما يفرض عليها من حروب غير متكافئة، ابتداء باحتلال العراق، وتفجير المنطقة العربية بعد 2011، وما ترتب عنه من تداعيات مُدمرة. 

العنف و«الضحية»!
كما حصلت هذه الخلخلة جراء حركات العولمة الاقتصادية والتواصلية التي مهما شهدت من تعثرات بين الفينة والأخرى (الأزمة المالية في خريف 2008 وتداعياتها المستمرة إلى الآن، والانعكاسات الهيكلية لجائحة كورونا)، فإن كل شيء يتعولم، إلى درجة أن الدول عموماً وفي طليعتها البلدان العربية، لم تعد وحدها قادرة على احتكار «العنف الشرعي»، أو التحكم في القرار السياسي، أو في الآلة الإنتاجية، والمالية، والصحية بشكل كامل.
وترتب عن هذه العوامل المتضافرة بروز أوجه مختلفة للضحية، الفردية والجماعية، حيث أصبح الكل يتقدم إلى المجال العام في هيئة ضحية يطالب بالاعتراف بما تعرض له من اعتداء أو استبعاد. ولعل الحضور الكبير والمتنامي لصور الضحية اليوم يستدعي تفكيراً جديداً في ظاهرة العنف، أو بالأحرى في الآليات الجديدة التي يُعبر بها العنف عن مضمونه الثقافي، ولاسيما أن وسائط الاتصال، وفي طليعتها التلفزيون الذي يلعب أدواراً استراتيجية، أصبحت سلاحاً يوفر لمن يتحكم في سياساته التحريرية إمكانيات التموقع والتأثير، وتحول إلى أداة أضحت التجليات الجديدة للسلطة تعبر من خلالها عن ذاتها بوساطة الصور والأصوات، بشكل سافر. 

الزمن.. الحالة العربية
 وتقوم وسائط التواصل الاجتماعي والتكنولوجيات الرقمية بنفس الوظائف ولكن بطرق مغايرة، ولها من دون شك مزايا لامحدودة، إلا أن تأثيرها الواسع سمح لها أيضاً بزحزحة المنظومة الإعلامية برمتها نظراً لقدرتها على إنتاج الشك في الوقائع، وعلى نشر الضلال والخداع بأشكال أسرع من قدرات الحقيقة على إثبات ذاتها، أي أن زمن الخطأ، في هذه المواقع، له إيقاع متسارع لا يضاهيه فيه زمن الحقيقة. 
 ومن جهة أخرى يستلزم التفكير في الزمن، في الحالة العربية، مساءلة تداعيات الاهتزازات، ومختلف أشكال التحولات التي تمخضت عن الحركات الاحتجاجية العربية، التي انطلقت منذ 2011 وما تزال.. وما تمخّضت عنه من حروب أهلية مسلحة زاد في تأجيجها تورّط قوى إقليمية تستعمل وسائل في منتهى الوحشية في الجغرافيا العربية، يحركها في ذلك متخيَّل انتقامي ضد العروبة، حيث أعطت لهذه الحروب أبعاداً بالغة المأساوية.
 وقد زاد هذا الارتكاس استفحالاً في أغلب البلدان العربية مع فيروس كورونا، كما يبدو، باعتباره يشكل حدثاً غير مسبوق بهَوْله ومخاطره، قام بزعزعة كلية للاعتيادي ولليومي، وبتغيير في العلاقات بالذات، وبالزمن، والمكان، والآخر، والأوطان، والحدود. والظاهر أنه سيفاقم حالات التدهور والتراجع في العديد من البلدان العربية.

سؤال الزمنية
 ويبدو لي أن سؤال الزمنية عندنا يندرج، في العمق، ضمن إشكالية فكرية وثقافية أوسع، بل ويفترض النظر إليه بكثير من الحذر والتواضع بسبب التباس الخطابات وتشويه الأفكار الذي نشهد عليه في إعلامنا وكتاباتنا، فالحديث عن الزمنية الحالية أو الآتية حديث إشكالي، يترجم حالات مختلفة من القلق، ويتطلب انتباهاً خاصاً في مواجهة مختلف أشكال اللايقين التي تعرفها المجتمعات العربية، كما أنه يخلق حالات من الخوف، من جراء مختلف أسباب العنف والاقتلاع، والصعوبات التي تعترض النخب في فهم التحولات الجارفة للواقع، وبالأخص صعوبات فهم الحاضر وتوقع المستقبل أو تخيُّله.
 وليست الزمنية وحدها محط التباس بل إن الثقافة برمتها، عندنا، تعاني من كثير من التشويه والتمييع غالباً. وتستعمل في كل وقت وحين، حتى وإن عمل مستعملوها على القيام بأدوار تناقض، تماماً، ما يدّعونه. وتغيب، في الواقع، حينما يكون السياق يتطلب النهوض والتفكير والتفاهم، والإبداع وإنتاج مقومات التقدم.

الارتهان للماضي
 وفي ضوء التضخم الخطابي الملحوظ عن الثقافة، وفي مناخ من ضحالة التفكير المبدع، ولاسيما في زمن الثورة الرقمية وتنوع وسائل الاتصال والتواصل بين الناس، وفي سياق من الارتهان الدوغمائي للماضي، أو الارتهان لمناقشات وجدالات تجعل من التراث قضيتها ورهانها، تتراجع فرص التفكير أمام اجتياح نزوعات الهيمنة، ومظاهر الإملاء المختلفة، إما باسم السلطة العارية، أو الأصولية الدينية، أو أحياناً باسم شرعية انتخابية عددية تزرع الوهم لدى من ينطق باسمها أنه مَلك الحقيقة، وبلغ مُطلق السياسة. والحال أن السياسة لا تعرف المطلقات، أما إذا ألصقها البعض بالمطلقات فتنتج كوارث ومحناً، تؤجج عوامل النزاع والمواجهة أكثر ممّا تفرز قواعد التفاهم والتعايش، الأمر الذي ينتج زمناً منفلتاً منَّا دوماً ووجوداً مُعلقاً باستمرار.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©