السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

غياب الأخلاق وانهيار الحضارات

سقوط روما في لوحة توماس كول (أرشيفية)
3 ديسمبر 2020 04:10

إميل أمين

بالقرب من نهاية العقد الثاني وبداية الثالث من القرن الحادي والعشرين، وفي ظل تدهور واضح على مستوى البيئة والمناخ، وانتشار واضح للأوبئة، وقبل أن تنتهي البشرية من مواجهة جائحة «كوفيد - 19»،ها نحن نرى البعض يتحدث عن فيروس أو وباء يدعى ميرس، عطفاً على عودة سباق التسلح النووي من جديد، الأمر الذي يستدعي علامة استفهام جذرية: «هل الحضارة الإنسانية في طريقها للازدهار أم الانهيار؟

  •  إدوارد غيبون
    إدوارد غيبون

لعل أفضل من تصدى للجواب عن أسباب نشوء وارتقاء، ثم انهيار واندثار الحضارات عبر التاريخ، المؤرخ العربي الكبير ابن خلدون (1332 - 1406)، عالم الاجتماع الذي سبق الكثيرين في الغرب.
ومن ضمن الذين كرسوا جهداً تنقيبياً كبيراً في هذا الإطار أيضاً يأتي المؤرخ الإنجليزي الشهير إدوارد غيبون، (1737 - 1794)، وهو صاحب السفر الكبير «اضمحلال وسقوط الإمبراطورية الرومانية»، بأجزائه الثلاثة.

ثم يحل في الترتيب ثالثاً المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي (1889 - 1975)، صاحب المؤلف العمدة «دراسة للتاريخ»، الذي خبر كيف أن الحضارات العظيمة لا تموت قتلاً، وإنما انتحاراً، فهل يعني ذلك أن الحضارات غالباً ما تتحمل مسؤولية تدهورها؟
المؤكد أن هناك أسباباً عديدة تجعل السوس ينخر في جدران مختلف الحضارات، غير أن القاسم الأعظم المشترك بينها جميعاً، إنما هو انهيار الأخلاق، الأمر الذي يسمح بالتفاوت الطبقي والاجتماعي، ويبرر تالياً اتساع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، ويفتح الأبواب واسعة ويشرعها للتمدد الإمبراطوري، الذي عادة ما يتسبب في كتابة السطور الأخيرة من تاريخ أمم سادت وبادت.
 ولكن السؤال: ما هي الأخلاق وكيف لنا أن نصفها؟
باختصار، تبقى الأخلاق هي مجموعة القواعد التي يحاول من خلالها المجتمع أن يحض أفراده ومؤسساته على الالتزام بسلوكيات وتصرفات متسقة مع نظام هذا المجتمع وأمنه ونموه.
وفي هذا الإطار يمكن للمرء -والعهدة هنا على الراوي المؤرخ الأميركي الكبير وول ديورانت- أن يتفهم كيف استطاعت المقاطعات اليهودية التي عاشت في ظل دول مسيحية غربية ولنحو ستة عشر قرناً، أن تحافظ على اتصالها وسلامها الداخلي باتباعها لكود أخلاقي صارم ومفصل، دون مساعدة تقريباً من الدولة أو قوانينها.

بداية الأفول
وهذا يطرح السؤال المنطقي التالي: هل غياب الأخلاق هو بداية أفول الإمبراطوريات والحضارات عبر التاريخ؟
ربما يتعين علينا بداية الأمر أن نعود قليلاً إلى الوراء، مع انطلاق الثورة الصناعية، تلك التي مكنت الأفراد من زيادة الاعتماد على الذات وليس على الأسرة والشريحة الاجتماعية في توفير متطلبات الحياة.
في تلك الآونة لم يعد على الشباب الثائر أن يرضخ لقيود ومراقبة القرية، بل صار بإمكانه أن يخفي خطاياه وهويته في زحام المدينة وكثافة سكانها.
 وفي الوقت ذاته، رفع العلم التجريبي بتقدمه سلطة الأوراق البحثية على سلطة بعض النصوص المطلقة، وبدأ الاعتماد على الآلات وميكنة الصناعة والاقتصاد يشير إلى الفلسفات المادية، وصار التعليم يولد شكوكاً عقائدية، وفقدت بعض «الأكواد» الأخلاقية الغيبية شيئاً فشيئاً، وبدأ الكود الأخلاقي الزراعي يحتضر.
ولعل هذا يطرح سؤالاً آخر، أكثر راهنية وإلحاحاً: كيف يمكن إذن أن يكون مصير الأخلاق في اللحظة الآنية عبر عالمنا المعاصر، حيث ثورة الذكاء الاصطناعي والروبوتات والعقول الإلكترونية جاوزت المدى؟
لا يمكن تقديم جواب من غير التوقف أمام عجلة الحروب التي تدور مؤخراً ومن جديد بأشكال متباينة، حروب اقتصادية، حروب ثقافية، حروب إيكولوجية، وصولاً إلى الحروب العسكرية، التي باتت اليوم سيفاً مسلطاً على رقاب البشرية.
وفي السياق التاريخي لمنتصف القرن الماضي وبعد حربين عالميتين، نجد مقاربة شديدة مع ما جرى في زمن سقراط (توفي 399 قبل الميلاد)، وفي زمن أغسطس قيصر (توفي 14 ميلادية)، فقد أضيفت الحروب للأسباب التي أدت إلى التراخي الأخلاقي.
 وبعد الحرب البيلوبونيسية والاضطراب الاجتماعي الشديد الذي سببته، لم يشعر«ألكيبيادس»، رجل السياسة والخطيب والقائد العسكري الإغريقي البارز من أثينا القديمة، بالحرج في أن يستهين بكود أجداده الأخلاقي، كما لم يتورع ثيراسيماخوس السفسطائي الإغريقي أن يعلن أن صاحب القوة هو الذي يحدد ما هو الصواب.

انعدام الوازع
وفي المجمل، يمثل غياب الأخلاق انعداماً للوازع الماورائي، ولهذا انتشرت في أوروبا وأميركا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي الحركات الإلحادية، وأخضع كل شيء لمنطق العقل والتجريب، وتوارت قضايا الروحانيات والإيمانيات وراء مخاوف من مواجهة نووية مع الاتحاد السوفييتي السابق، أي أن قسماً غالباً من المجتمعات فضل الهروب من فكرة الكود الأخلاقي، التي تمثل عبئاً على كاهل من يحمله.
 وبعد نحو سبعة عقود من التفلت الأخلاقي وتحت أجنحة العولمة، تبدو الحضارة الإنسانية المعاصرة أمام مشاهد مشابهة لما حدث في زمن الإمبراطورية الرومانية، ولاسيما ما أسماه المؤرخ الأميركي الشهير «بول كيندي»، فرط الامتداد الإمبراطوري، أي التوسع الإمبريالي المرتكز على القوة العسكرية فقط، ومن غير أي رؤى أخلاقية داعمة أو مساندة.

التهديد الإيكولوجي
ثم وهذا ما نعيشه في حاضر أيامنا، التدهور البيئي والمناخي، وليس سراً أن الأزمة الإيكولوجية المعاصرة والتغيرات المناخية باتت تهدد الكرة الأرضية بما هو أخطر من اندلاع الحرب النووية.
ولعل السبب الرئيس وراء التهديد الإيكولوجي هو غياب إلى درجة الاضمحلال للطرح الأخلاقي، ذلك أن السعي وراء مراكمة رؤوس الأموال وتعظيم الأرباح، هو ما يدفع في طريق استخدام أدوات الطاقة المهلكة للبيئة، لرخص ثمنها وسهولة الحصول عليها.
وكانت الأمراض والأوبئة من بين الأسباب التي جعلت الرومان ينهزمون أمام القوطيين ويجتاحون روما في عام 410م، ومع عدم المقدرة على التوصل إلى لقاحات وعقاقير، واستمرار هجمات الونداليين عام 455م، تبخرت قوة الإمبراطورية التي قاربت سيطرتها على نحو خمسة ملايين كيلومتر مربع من جغرافيا العالم القديم.
 أما التفاوت الطبقي وازدياد الفجوات بين الأثرياء والفقراء، فمرده أخلاقي ومنشؤه الجشع والطمع، وعنوانه غياب العدالة في توزيع الثروات، وجميعها تنتج عن غياب الرؤية الأخلاقية الإنسانية، حتى وإن كانت مجردة عن التوجهات الدينية والعقائدية.
وكما يقول الفيلسوف الإسباني الأصل الأميركي الجنسية جورج سنتيانا: إن مَن لا يقرؤون التاريخ كفيلون بأن يكرروا أخطاءه.
فهل من صحوة أخلاقية قبل انهيار الحضارة الإنسانية المعاصرة؟

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©