الأربعاء 17 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هولدرلين.. الصخب المتوهّج

هولودرلين.. بريشة هايمر
10 ديسمبر 2020 01:39

ترجمة - أحمد حميدة

العمل الشّعري هو قبل كلّ شيء أثر حياة. خارج صقيع الكتابة، تتبدّى الرّوح فجأة، فتفجّر المرآة السّاخرة للجمال، وترتمي عارية في دهشة مصحوبة بالدّوار، فماذا يتبقّى بعد ذلك؟ بالكاد في اللّغة المتكلّسة، بعض الوميض، علامات غامضة، كتلك الآثار الغريبة التي تخلّفها الصّاعقة وتتوارى أمامها الغيوم، بعض من جمر ميتافيزيقيّ، إشارات لا ندرك كنهها، ولكنّنا نشعر مع ذلك أنّها مثقلة بصوب غزير من الدّلالات الملحّة الوافدة من الأعالي. وفي الهواء الذي تفوح منه رائحة الأوزون، والذي يتلاشى ثقله، تتراقص شفافيّة متملّصة، منفتحة على الأبديّة. وها إنّ الصّمت الفذّ، منتصراً.. يتقدّم في الطّرقات التي غدت منفتحة، والتي لن تنغلق من جديد. لقد ألقى الموكب اللاّمرئيّ بأقنعته، وكلّ بؤس منحوس غدا منصرعاً. إنّه النّور الذي بات منهمراً!

قريب هو الخالق، وصعب إدراك حقيقته
ولكن حيثما تحلّ النّوائب، تشْرَع أبواب للنّجاة..
عندما كنت صبيّاً، كان يخلّصني من صراخ البشر ومن سياطهم.
 موكب الكلمات يعبُر من عالم إلى آخر. ومن الإنسان، يستعيد الشّاعر، كامل الحريق لحريّته الموجعة.
في سالف الأيّام، كان الشّعراء
يقولون، وهم يتحدّثون عن أنفسهم
إنّهم أمسكوا بجسارة العرفان
أمّا نحن، فمن الشّقاء نجتني الغنائم..

ظلال مرعبة!
في ما مضى، كان ثمّة بلاء ومعاناة، كان ثمّة إنسان ممزّق، والكثير من الدّم المجبول والمطحون. كان ثمّة صراخ متكرّر، وفي كلّ الأنحاء، ظلال مرعبة! كلّ الأشياء كان يهزّها ارتجاف عميق، حمل ثقيل وفناء! كان ذلك الإنسان يحمل اسماً، وبداخله شخصٌ ما، متوجّعٌ، يصيخ السّمع. إنّه الشاعر! شخصٌ ما يجازف بملء كيانه، ولا قدرة له على التحكّم في نفسه، كان يمعن في الانحناء على خطر متربّص، متمادياً في السّعي باتّجاه الرّوح، وهو يمتشق ذلك الصارم المتوهّج: الكلمة! وكانت له تلك الجسارة المثخنة بالقساوة والجراح، التي يلوّح بها المحارب الرّوحيّ، حين يقبل أعزل على المخاطر، تلك الجسارة المشوبة بالصّبر والتهيّج، التي تسبقه مثل البيرق، بيرق دمه الموهوب لرياح الأعالي، وجوده، استرخاء وتوجّع. لقد اخْتُطِف، أُسْقِط وابتُلع في الدوّامة الباطنيّة لعزلته، تلك العزلة الدوّارة العموديّة، التي لا تنفتح على غير عرفان الحضرة الربّانيّة.

حشد الارتياعات
غير أنّ الإِطباق على روحه، والانقضاض على حواسّه المنفتحة، المحتدمة، لم يأت من حشد الارتياعات المتوقّعة، أو الظّلال الخبيثة أو السّموم المستكنّة بالدّاخل. كلاّ! لقد كان ضياء مبهراً، ساطعاً حدّ القساوة، ضياء لا ظلّ له ولا وميض، وقد اندفع كلّ ذلك بداخله، مرتدّاً من الكلمة ذاتها، لينساب مع كلّ حاسّة من حواسّه، وينسفها، ويجعلها تتشظّى. وإنّه لأمر مدهش حقّاً! كنّا نعتقد أنّ الهاويات الدّامسة، الهاويات السّفليّة، هي التي كان ينحني فوقها، فإذا به يُدفع نحو الهاويات العلويّة، هاويات الصّفاء!
«فبإمكاننا السّقوط إلى أعلى، كما هو السّقوط إلى أسفل»، هذا ما كتبه هولدرلين، وهو الذي كان يروم الحديث عن الفرح، ولكن ما مبلغ إدراكنا نحن لمعنى الفرح؟

الضّياء المفرط
أي نعم! إنّ الحقيقة الرّوحيّة تدمغ الحقيقة الأخرى المحزنة والقاسية. غير أنّ ارتطام فطانة الشّاعر بمجامع أعصابه، كان يدفع به إلى الصّراخ، منتهكاً بذلك الضّياء المفرط، كان عبثاً يحاول العودة إلى الوراء، خطوة خطوة، ليعتصم بالطّفولة، من حوله! وفي كلّ مشاهد الطّفولة، كما في عتمة القلب، لم يعد هنالك من أثر لظلّ! فما كان منه إلاّ أن استسلم للاصطخاب الثّابت والمتوهّج، ليمضي ويغترب، لأن إنسان الباطن ينبغي له أن يمكث في ليل جلدته..! 

رحاب الأبديّة
في جنونه الأبيض -ونحن ندرك سبب ذلك الجنون- أنكر هولدرلين اسمه، فلماذا تراه كان يخاطب كلّ إنسان له ظلّ وكثافة ما يصادفه، فيدعوه بصاحب السّيادة! سيّدي المستشار! صاحب السعادة! صاحب القداسة! لماذا كان يبدي مثل ذلك التّواضع العنيد، ليبدو على هيأة خادم مذعن، مطيع؟ إنّ الرّؤية المُتْلِفة لرحاب الأبديّة طيلة أربعين سنة، لن تترك فريستها سالماً. وحين حضرته الموت في ليل يوم 6 يونيو 1843، لم يتبقّ لها أيّ عمل لتقوم به، كان النّوم قد انصهر حينها في الموت!
وفي اللّحظة التي كان تابوته يوارى التّراب، أشعّت الشّمس من جديد بين الغيوم. لقد كانت تلك هي النّهاية، ولكنّها أيضاً البداية بالنّسبة لأعظم شاعر في العصر الحديث. هذا المجنون الذي لم تتسلّل إليه الظّلال ولا الديدان، ولكن، بعد هبوب عاصفة الحبّ، انتصب بداخله، قائماً، ساكناً وموجعاً، النّصل الشّامخ لزوال الأبديّة. 
 
رقص ابنة الماء
«أكرموا الأرض ونظرتها التي قدّت من ذهب.. في عمق البحر حيث ترقص ابنة الماء، يُسمع رجع صدى القواقع والمرجان. في القصر البلّوريّ، الحفل يبلغ ذروته. حين كنت في المهد، كانت أمّي تأتيني بأزهار تلتمسها لدى الجنية اللّيليّة للغابات، وقد أحضرت معها ذات مرّة زنبقة كبيرة. وفي اللّيل، أمام مهدي، وضعت تلك الزّنبقة في كأس من الماء، فتفتّحت في ضوء القمر، فهل تبصرون قلب الضّياء في الكون الأزرق أيّتها الأوراق الزرقاء والذّهبيّة؟ لتنظروا إلى الزّنبقة وهي تتمدّد وتبرعم، لتتفتّحي أيّتها الزّنبقة! وإذا بها تنثر أمواجاً من ألوان وضياء وألحان، وإذا بكأس الزّنبقة يهب ما استكنّ فيه من عطر، وإذا بالجبال والأودية والهاويات، وبحماسة بالغة، تتنشّق.. تشهق.. ثمّ.. تتوارى».
هكذا تحدّث هولدرلين، وهذا الذي نقرأ ليس بنصّ، وإنّما هو ما قد نسمّيه بـ«ليل الرّوح» المعتم لهولدرلين. ويبقى لنا الآن أثره الذي يشهد عليه.

  • نص للشّاعر السويسري آرمل غيرن
  •  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©