إميل أمين
«وها نحن نرفع أبصارنا
ليس إلى الحوائل التي تجثم بيننا
بل نحو الأهداف التي تقف أمامنا
***
ونغلق الفواصل لكي نضع مستقبلنا كأولوية أهم،
فلنضع خلافاتنا جانباً
ولنلقِ بأسلحتنا
حتى نتمكن من مد أيادينا
لبعضنا بعضاً».
بهذه الكلمات الشعرية كانت الشاعرة الأميركية الشابة «أماندا غورمان» تسرق الأضواء، خلال حفل تنصيب الرئيس الأميركي جوزيف بايدن، وقد اختارت أن تلقى قصيدة عنوانها «التل الذي نتسلقه»، وربما هنا الإشارة مزدوجة، فمن ناحية هناك رمزية لفكرة التل أو الجبل الأميركي، تلك الرؤية «اليوتوبية» التي تحدث بها الآباء المؤسسون الأميركيون، حيث أميركا مدينة فوق جبل، تنير للجالسين في الظلمة وظلال الموت. وربما فهم الضيوف والحضور المعنى والمبنى لقصيدتها، عبر الألم الذي انتاب الأميركيين، حين رأوا تسلق الدهماء تلة الكابيتول، الكونجرس الأميركي، وتوجيه طعنة غادرة لقلب الحياة الديمقراطية!
ومنذ زمن تنصيب الرئيس الأميركي الأسبق جون كيندي في أوائل ستينيات القرن الماضي، جرى عرف «الديمقراطيين» أن تلقى قصائد شعرية في يوم تنصيب الرئيس في البيت الأبيض، وقد حافظت حملة الرئيس بايدن على هذا التقليد. ولعل السؤال هنا: «من اختار» أماندا غورمان بالذات، لتلقي قصيدة التنصيب؟
الدكتورة «جيل»
تشير وسائل الإعلام الأميركية إلى الدكتورة «جيل بايدن»، زوجة الرئيس، الأستاذة الجامعية والمعلمة لعقود طوال، والتي يبدو أنها كانت قد استمعت من قبل إلى غورمان، ومن ثم فهي من أشارت على القائمين على الحدث باختيارها.
ولم ينقص الذكاء الاجتماعي والعلمي الدكتورة «جيل بايدن»، فأوعزت إلى الشاعرة الأميركية الشابة بأن تكتب قصيدة تشاغب فيها روح التوافق الأميركي والوحدة المجتمعية، لاسيما بعد الجراح الثخينة التي عاشتها أميركا، خلال مرحلة الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وقد كتبت بالفعل أبياتاً عن: «العالم الجريح الذي يمكن أن ينحو إلى عالم رائع»، في إشارة لا تخطئها العين لواقع حال الإمبراطورية الأميركية المعاصرة.
فهل يمكن للشعر أن يعيد لأميركا روحها الوهاجة وألقها البراق، ذاك الذي كاد يتوارى نهار السادس من يناير، ومن وراء ما عرف بـ«غزوة الكونجرس»؟
الفتاة ذات الرداء الأصفر
بردائها الأصفر وشعرها المطوق بتاج أحمر، سلبت «أماندا غور» عقول وقلوب الحضور، فقد جاءت كلماتها لتذكر العالم بالحلم الأميركي، وفيه على حد قولها: «فتاة سمراء نحيفة، تنحدر من أرقّاء، ربّتها أم عزباء، بإمكانها أن تحلم بأن تصبح رئيسة».
وعلى صغر سنها، تؤمن غورمان بأن: «الشعر عادة هو المحك الذي نعود إليه عندما يتعين علينا تذكير أنفسنا بالتاريخ الذي نقف عليه، والمستقبل الذي ندافع عنه»، وبذلك كانت تلخص المشهد السياسي الأميركي عبر أشعارها البريئة، بلون قلبها الوديع.
أفضل شاعرة شابة
لقد شاغب إلهام الشعر، عقل غورمان، في سن مبكرة، فقد حصدت أول جائزة شعرية لها حين كان عمرها لا يزال 16 عاماً، وبعد ثلاث سنوات فازت بجائزة «أفضل شاعرة شابة» في البلاد، وذلك أثناء دراستها في جامعة هارفارد المرموقة. وفي يوم تنصيب بايدن، تساءل الجميع: هل تكون غورمان هي خلَف شاعرة أميركا العظيمة مايا أنجلو التي خرجت الأمة الأميركية كلها في وداعها قبل بضعة أعوام؟
عبر صفحات «النيويورك تايمز» كانت غورمان، تصرح بالقول: «إن ما أطمح إليه حقاً من خلال قصيدتي هو أن أكون قادرة على استخدام كلماتي في تصور رؤية تشكل لشعب بلادنا أرضية للاتحاد والتراصف والتعافي»، وتضيف: «أحاول القيام بذلك على نحو لا يمحو أو يتجاهل الحقائق القاسية التي أعتقد أن أميركا هي بحاجة إلى التصالح معها».
وأمام الرئيس بايدن، ورؤساء أميركيين سابقين، وكبار رجال الدولة، وعلى مرأى ومسمع من العالم أجمع، ارتفع صوت غورمان، ليكون لسان أميركا المتوافقة لا المتفرقة، التي تقدِم لا التي تحجم، مضيفة عبر قصيدتها عن العالَم الأميركي الرائع، حتى وإن جرح ذات نهار، بأن: «هناك دائماً نوراً، لو أننا فقط شجعان بما فيه الكفاية لرؤيته، ولو أننا فقط شجعان بما فيه الكفاية لتكوينه».
التاريخ من الباب العريض
وهكذا دخلت غورمان، حكماً التاريخ بوصفها أصغر شاعرة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية تحتفي بانتقال السلطة الرئاسية، وبدت تلك الشابة الصغيرة (22 سنة)، المتحدرة من لوس أنجلوس، بولاية كاليفورنيا، وهي تبعث في الأمة الأميركية برمتها، وليس في الحضور على قمة الكابيتول فقط، مشاعر الانتصار بعد الانكسار، بصوتها الهادئ، وحركاتها الرشيقة، وأدائها اللافت وثقتها العالية.
والحال أن قصة غورمان، مثيرة، وفيها من الإبداع الحياتي ما يلفت الانتباه، لاسيما أنها وجدت في كتابة الشعر وسيلة للتغلب على التلعثم الذي عانت منه في طفولتها، تماماً كما فعل بايدن حين كان صغيراً.
وقد استطاعت غورمان أن تصبح صوت أميركا الرؤيوي الرسالي، في الوقت الذي كادت فيه روح الأمة تنشق من أعلى إلى أسفل، وفي ساعات ارتفعت فيها بالفعل في ساحة الكابيتول وعلى تلة رايات تعيد التذكير بأزمنة الحرب الأهلية الأميركية، ولاسيما علم الكونفيدرالية الذي انتصب عالياً، في حين تم إسقاط العلم الاتحادي الأميركي قصداً لا عفواً!
شعرية الحضور
وفي مستهل قصيدة غورمان، التي جاءت لتداوي جراحات السادس من يناير، ذلك اليوم الذي سيبقى يوماً سيئ الذكر في التاريخ الأميركي الحديث، تحدثت الشاعرة الشابة عن ما أسمته: «قوة من شأنها أن تمزق أمتنا بدلاً من تقاسمها»، وبدت كأنها تستشرف قادم الأيام، حين نبهت إلى أن ذلك الجهد غير الخلاق: «كاد ينجح، ولكن إذا كان ممكناً للديمقراطية أن تتأخر أحياناً، فمن غير الممكن أن تهزم دائماً».
ولعلنا لا نغالي إن قلنا إن غورمان، ربما كانت نقطة ضوء أميركية لامعة بقوة وحضور طاغٍ، وسط ظلمة الأحداث الأخيرة، وربما بينت للأميركيين وللعالم أن الشعر ليس آلية للتسلية، ولكنه طريق سريع إلى القلوب والعقول، يشرح ويفرح ولا يجرح، ولهذا اجتمع الحضور، من «جمهوريين» و«ديمقراطيين»، بيض وسود، رجال ونساء، كبار وصغار، على حضور غورمان «الفذ».
وهكذا بدت غورمان أمل أميركا عبر تمثيلها لشباب الأمة، وهذا ما لفت إليه باراك أوباما الذي غرد بالقول: «يوم للتاريخ»، مشيداً بأداء غورمان، واصفاً قدرات الشباب بالضوء الذي يحتاج إلى شجاعة لرؤيته. أما هيلاري كلينتون فقد كتبت تقول إنها لا تستطيع الانتظار لرؤية الشاعرة السمراء عندما تترشح للرئاسة ودخول البيت الأبيض في عام 2036، بحسب ما وعدت به أماندا نفسها.
فهل تكون الشاعرة الشابة، حقاً، أول سيدة تتولى منصب الرئيس في تاريخ أميركا... وهل البيت الأبيض على موعد، في يوم ما، مع هذه الرئيس الشاعرة؟