الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«الأخوة الإنسانية».. وثيقة الشجاعة والأمل

شيخ الأزهر وبابا الفاتيكان خلال توقيع وثيقة الأخوّة الإنسانية في أبوظبي (أرشيفية)
25 مارس 2021 00:46

د. عز الدين عناية

في مؤلّفهما الصادر عن دار النشر الإيطالية «تيرّا سانتا» بمدينة ميلانو، يطالعنا أستاذ الإسلاميات التونسي عدنان المقراني واللاهوتي الإيطالي برونيتّو سالفاراني بقراءة معمّقة لوثيقة «الأخوّة الإنسانية» (أبوظبي، 2019). جاء الكتاب معبّراً عن وجهتيْ نظر مختلفتين ومتكاملتين، من حيث مقارَبة الوثيقة. وهو ما أضفى عمقاً دلالياً على فحوى القراءة، استطاع الأكاديميان من خلاله التطرق إلى أبعاد الوثيقة، وإلى أطوار التقارب المسيحي الإسلامي.
ويستهلّ الأستاذ المقراني تأمّله في وثيقة أبوظبي بهذه العبارات: رسالة «جميعنا إخوة» للبابا فرنسيس، هي تأكيد وتشديد على ما ورد في ثنايا وثيقة أبوظبي. ليتابع خبير الإسلاميات في القسم الأول المعنون بـ «وعود الأخوّة.. من أجل رؤية مستجدّة لإنسانية جديدة»، بشكل دقيق وموثّق، تصريحات البابا فرنسيس تجاه المسلمين ودعوته الجادة الإعلام الغربي إلى التخلي عن تحامله على الإسلام والمسلمين، ليخلص المقراني إلى أنّ «تصريحات البابا هي فعل رحمة يعيد للمسلمين كرامتهم كبشر وكمؤمنين».
واستناداً إلى قراءة تاريخية لأطوار التقارب، يستحضر المقراني علاقة الأزهر الشريف بحاضرة الفاتيكان من خلال مواقف شيوخه، على مدى القرن الماضي، وإلى غاية الإمام الحالي الشيخ أحمد الطيب. كما يستعرض في جانب آخر، رسائل المسلمين المعاصرة إلى الفاتيكان على غرار «كلمة سواء» (عمّان، 2007)، الموقعة من قِبل 138 من كبار العلماء، التي جاءت على خلفية تجاوز حدث راتيسبونا بسبب تصريحات البابا المستقيل راتسينغر؛ وكذلك «إعلان مراكش» الداعي إلى صيغة تفاهم جديدة في عالمنا المعولَم تُنْبَذ فيها أشكال العنف (2016).
ويُبرز المقراني من خلال هذا الاستعراض حرص المسلمين على التقارب الجاد مع حاضرة الفاتيكان، بغرض إرساء تعاون يهدف إلى بناء السلام والإيلاف. ويتوقف المقراني عند عظة البابا في ساحة القديس بطرس في الثالث من أبريل 2019، ويعتبرها إفصاحاً صريحاً من البابا فرنسيس عن ضرورة بناء صلح مع المسلمين بغرض تشييد التآخي. فقد ورد في نص تلك العظة: «قد يَسأل البعض لماذا يتوجّه البابا إلى المسلمين ولا يقتصر على الكاثوليك؟... مع المسلمين نحن نتحدّر من أب واحد من إبراهيم... وما يريده الرب هو التآخي مع إخوتنا المسلمين».
وفي قراءة لمسعى التقارب، يرى المقراني أن ثمة جهداً مبذولاً لصياغة هرمينوطيقيا إيمانية لاستيعاب الآخر ونبذ الاستبعاد، ويعتبر هذا الهاجس حاضراً بقوة عند جمع من علماء الدين المسلمين في البحث عن تجديد براديغمات الاحتضان للآخر ضمن رؤى حداثية. ويرى المقراني أن هذا التحول الهرمينوطيقي قد عبّرت عنه وثيقة أبوظبي بقوّة من خلال تركيزها على مفهوم كرامة الإنسان. ومن هذا الباب يرى المقراني محورية الدور الملقى على عاتق العلماء من الجانبين في خلق قِيم تعايش جديدة وترسيخها. فحوار الأديان، كما ألمحت إليه وثيقة أبوظبي، هو عمل قائم على المعارف، لا العواطف، وذلك بغرض إنشاء لغة مشتركة بين الجانبين الإسلامي والمسيحي، تتطلّع إلى الكونية وتقطع مع الانحصار اللاهوتي، وهو أمر ضروري في عالمنا المعولَم.

الحوار قدرنا
في قسم آخر من الكتاب وتحت عنوان «شجاعة المغايَرة» كتب اللاهوتي برونيتّو سالفاراني: بعيداً عن الصور الكاريكاتورية المبتذَلة، حان وقت الحوار الحقيقي لأنّ ذلك قدرنا. لقد جاءت وثيقة أبوظبي، كما يرى سالفاراني، معبّرة عن هواجس كونية فعلية. فما من شك أن العالم الغربي يعيش واقعاً تعددياً، ثقافياً ودينياً، ما عاد فيه مكان لواحدية التصور والرؤية. ويتحدّث سالفاراني عن الواقع الغربي، قائلاً: إن الغرب يعيش سياقا متبدّلاً مع مكوَّنه الإسلامي، يتمثّل في التحول من الإسلام في الغرب إلى الإسلام الغربي، وهو ما يتطلب رؤى جديدة، حيث نجد تلميحات واعدة في وثيقة أبوظبي المنفتحة على أبعاد كونية.
فـ«حوار الحياة اليومية»، بين الإسلام والمسيحية، كما يرصد سالفاراني، تبدو ساحته الكبرى الغرب، الحاضن لملايين المسلمين، ولذلك يبدو الحوار في هذا الجانب ثرياً وواعداً بين الدينين. كما يقرّ الكاتب بأن الغرب «المسيحي» قد عاش أزمة تقبّل لحقيقة الإسلام في الغرب، لكن هذه الأزمة بدأت في التواري منذ صدور «إعلان نوسترا آيتات»، وما تلاها من مبادرات بابوية، إلى أن تغير الأمر، مع خطاب بابا الكنيسة الكاثوليكية الحالي فرنسيس، بشكل جذري تجاه المسلمين. وما من شك أن تنقية الضمير الديني الغربي تجاه المسلمين، وإلى غاية بلوغه وثيقة أبوظبي الموقَّعة بين الطرفين، الإسلامي والمسيحي، قد مرّ بتطورات. وبرز ذلك جليّاً في الإرشاد الرسوليّ الأوّل للبابا فرنسيس «فرح الإنجيل» بشأن المسلمين. وفي ما يذهب إليه سالفاراني، ليست كلمة الحوار «عبارة سحرية» خلاصية، ولذلك نشهد اليوم نزع الأوهام عن الكلمة إلى تنزيل مضامينها الفعلية على مستوى ترسيخ المعرفة بالآخر، والاستيعاب القانوني للمغاير، والإدراك الثابت لما يواجهنا سويّاً من مصير جامع جراء العولمة المتسارعة، وهو بالفعل ما تفطّنت إليه وثيقة أبوظبي بعيداً عن تجارب الحوار العاطفي الذي ساد في عقود سالفة.
سيكون هذا التحول ثابتاً، وفق سالفاراني، حين يستند إلى أرضية معرفية أكاديمية. صحيح في الجانب المسيحي، استطاعت الكنيسة أن تؤسس تقاليد مؤسساتية في التواصل مع الآخر، تمثّلت أساساً في بعث «المعهد البابوي للدراسات العربية الإسلامية» في روما (بيزاي)، وما قام به من تقريب وجهات النظر بين العالمين، سواء كان ذلك بتكوين رجال الدين أو بعرض الطروحات الفكرية والدينية للآخر القادم من العالم الإسلامي. ولكن ذلك الجانب يبدو غائباً لدى الطرف المسلم المفتقد إلى مؤسسة علمية تعتني بالآخر المسيحي على مستوى أكاديمي ومعرفي، وقادرة على أن تخاطب الإنتلجنسيا الفكرية على الضفتين. فالحوار العاطفي -وفق سالفاراني- الذي يقنع فيه كلّ بإظهار حفاوته بالآخر لا يدفع بالحوار إلى الأمام، ووحده الحوار المبني على المعرفة الرصينة بالآخر القادر على الدفع بالحوار الحقيقي قدماً.
ولا يكتفي سالفاراني بقراءة عامة لدلالات وثيقة أبوظبي، بل نجده يخصص فصلاً على حدة لأبعاد الوثيقة ومضامينها. وهو يلتقي في هذا المجال مع المقراني في أن وثيقة أبوظبي هي خلاصة مسار طويل من التأمل اللاهوتي. وعلى هذا الأساس، تضعنا الوثيقة في زمن الشجاعة والأمل، بحسب عبارة سالفاراني. كما يشدّد المقراني وسالفاراني على نقطة جوهرية، حيث يلحّ كلاهما على ضرورة إنتاج لغة حوار معرفية يسهر عليها متخصّصون في الأديان، وترعاها مؤسسات جامعية ومراكز أبحاث، قادرة على فتح آفاق جديدة وتأسيس شراكات علمية حقيقية.
وفي فصل ختامي بعنوان «قضايا مطروحة على الأخوة» يناقش المؤلفان مسائل على صلة بوثيقة أبوظبي، تَبرز من بينها فاعلية دور الثقافة، معتبرين أن الرهان على الثقافة بوسعه أن يخلق لغة كونية. ولعلّ ذلك ما تفطنت إليه وثيقة أبوظبي في دعوتها الأطراف العاملة في حقول الثقافة إلى المبادرة والمشاركة. كما يفصح الكاتبان عن بعض الشكوك جراء عالمنا الذي تهيمن فيه «اللامبالاة الدينية» و«البريكولاج الديني» -تلبية الحاجة الدينية بشكل مرتجل- لاسيما في الغرب، وهو ما قد يُحوّل النداءات الصادقة إلى أصوات صارخة في البرية. حيث يحذّر الكاتبان من مغبّة «الحرب العالمية بالتقسيط» التي يعيشها عالمنا، من خلال تفشّي الصراعات والانتهاكات والأعمال الإرهابية، وهي حرب استنزاف فعلية كما يرى المقراني وسالفاراني.
نشير إلى أن عدنان المقراني، أستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة الغريغورية في روما، هو أول مسلم يدرّس في جامعة بابوية، وهو باحث متميز في مجال اللاعنف. أما برونتّو سالفاراني فهو لاهوتي وكاتب من أعمق المتخصصين في الحوار المسكوني، وله حضور بارز في الساحة الثقافية الإيطالية.

هامش:
الكتاب: الأخوّة الإنسانية وما يحوم حولها من شكوك
تأليف: عدنان المقراني وبرونيتّو سالفاراني.
الناشر: منشورات تيرّا سانتا (ميلانو-إيطاليا) ‹باللغة الإيطالية›.
سنة النشر: 2021.
عدد الصفحات: 176 ص.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©