الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

هيدغر.. الدفاتر السوداء!

هيدغر.. الدفاتر السوداء!
1 ابريل 2021 01:21

الفاهم محمد

هل بات «جرح الفكر الذي لا يندمل»، كما أطلق عليه، مؤكداً الآن؟ هذا على أي حال هو ما تؤكده: «الدفاتر السوداء» schwarze hefte التي عثر عليها مؤخراً للفيلسوف الألماني الكبير مارتن هيدغر. ويتعلق الأمر بمجموعة من الكراسات يبلغ عددها أربعة وثلاثين دفتراً، كتبت ما بين 1934 و1975، وقد بدأت هذه الدفاتر تنشر تباعاً ضمن الأعمال الكاملة، ابتداء من 2014. وكان هيدغر نفسه قد قام ببرمجة هذه الإصدارات الشاملة لأعماله البالغة 102 مجلد والتي ستظهر بعد وفاته، وهي الإصدارات التي أشرف عليها الباحث الألماني «بيثر تراوني». والآن بعد أن وصلنا إلى المجلدين 92 و93 ها هي ذي تظهر بكل وضوح، أفكار عنصرية ومعادية للسامية، لا تختلف كثيراً، كما يقول المتتبعون، عن الأفكار التي يمكن العثور عليها عند منظر النازية ألفريد روزنبرغ، أو حتى عند هتلر ذاته. 
لقد كانت هناك دائماً شكوك حول ارتباط فكر هيدغر بالنازية. ليس فقط بسبب قبوله بالبقاء في ألمانيا زمن الرايخ، وتسلمه لعمادة الجامعة، بل أيضاً بسبب العديد من المقاطع التي تخللت كتاباته، والتي كانت تتضمن إشارات، أحياناً مبطّنة وأخرى مباشرة دعماً للفكر النازي. فالشكوك بخصوص انحياز هيدغر للفكر النازي قديمة، إذ سبق للباحث والمؤرخ التشيلي فكتور فارياس، أن أصدر كتاباً أثار ضجة سنة 1987 تحت عنوان: «هيدغر والنازية». كما ظهر بعد ذلك سنة 2005 كتاب آخر يتناول أيضاً القضية نفسها، للفرنسي إمانويل فاي. وقد توصل فيه إلى استنتاج جذري، ينفي من خلاله صفة الفيلسوف عن هيدغر. 

«تفاهة الشر»
إن الأمر يستحق الاهتمام حقاً ليس فقط بسبب التحقيق الأكاديمي الذي ينبغي أن تخضع له أعماله، بل أيضاً بسبب كون هيدغر أحد أكبر العقول الفلسفية، التي أثرت بدرجة بالغة على الفكر الفلسفي خلال القرن العشرين. وسبق لتلميذة هيدغر حنة أرندت أن تحدثت عن مفهوم: «تفاهة الشر» وكانت تقصد بهذا النعت، أن أناساً بسبب تدني مستواهم المعرفي قد يقومون بأعمال شريرة مروعة. ولكن الآن كيف الحديث عن هذا الشر، الذي صدر عن أقوى العقول الفلسفية خلال القرن العشرين؟ كيف يمكن للفلسفة التي ظلت دوماً تتساءل من أين ينبع الشر، أن تكون هي ذاتها مصدراً داعماً لهذا الشر؟! 

كارثة فلسفية
وقد تمحور السؤال حول هذه القضية بين الباحثين، حول عما إذا كان هذا الانحياز للنازية مجرد مغازلة سطحية، أو هفوة شخصية وقرار خاطئ، اتخذه هيدغر في حياته. أم أنه أكثر من ذلك انحياز يوجد في صميم مشروعه الفكري. في الحقيقة، إذا كانت القضية مجرد: «خطأ سياسي بسيط» كما يدافع أنصار هيدغر، فسيكون بالإمكان تهوين المسألة. أما إذا كانت النازية توجد في صميم الفكر الهيدغري، كما توجد الدودة في الثمرة، فإن القضية ستكون: «كارثة فلسفية» كما وصفتها جريدة لوموند الفرنسية.

الدفاتر المشؤومة
لفحص القضية عن قرب، دعونا نلقي هنا نظرة أولية على هذه الدفاتر المشؤومة. هناك خلاف حول قضية التسمية في حد ذاتها، فالبعض يرى أن تسميتها بالدفاتر السوداء ينطوي في حد ذاته على حكم مسبق، وكأننا نلحقها بكتب السحر والشعوذة التي ظهرت في القرون الوسطى. بينما يرى «بيثر تراوني» أن هيدغر هو نفسه من اختار هذه التسمية بسبب لون الأغلفة. وعلى أي حال ففي هذه الدفاتر، نجد أفكاراً حادة معادية للسامية، وداعمة للفكر النازي. مثل اعتباره أن ضحايا النازية هم من أبادوا واضطهدوا أنفسهم، وبالتالي فهم المسؤولون المباشرون عما لحق بهم! كما أنه يرى أن هناك ولادة ثانية للفلسفة في ألمانيا، بعد ولادتها الأولى في اليونان، وأن الرؤية الهتلرية للعالم ستساهم في انبعاث جديد للثقافة اليونانية، بل وستكون هي: «التحول الكبير في وجود الإنسان»، الأعمال الكاملة [GA 36/‏‏‏‏‏‏37 ص 119 و225]. أما الباحث الفرنسي فرانسوا راستيي، فيذهب في قراءته لقضية نازية الفكر الهيدغري، إلى أبعد من مجرد موالاة للنازية، أو اعتباره أن ألمانيا هي الحل النهائي لانحدار الغرب. إذ يرى الكاتب أن هيدغر كان يطمح إلى الاستحواذ على الفكر اليهودي، وبالخصوص التصوف القابالي من الداخل، وإحداث انقلاب داخله! 

مواقف لا أخلاقية
ومن المؤكد أن ثمة انزلاقات كثيرة حدثت في تاريخ الفلسفة، نتجت عنها مواقف لا أخلاقية ولا إنسانية. مثلاً تأييد أفلاطون لمسألة تحسين النسل، وتصور ميكيافيلي للممارسة السياسية، إضافة إلى تأييد جون لوك لمواقف عنصرية، طالب فيها بهيمنة البيض على السود. ولكن كيفما كان الحال، لا يمكن الاستناد على هذه الأخطاء من أجل تصفية الحساب، لا مع فلسفة هؤلاء ولا مع الفلسفة بشكل عام، والمطالبة برفضها جملة وتفصيلاً. لا يمكن أن نرمي الطفل مع ماء الحمام كما يقول المثل الإنجليزي. صحيح أن الحصافة الفلسفية لهيدغر، قد وهَنت لحظة انحيازه للنازية، وهذا أمر يستحق عليه كل الانتقادات التي وجهت له. غير أن كل هذا لا يقلل من العمق الفلسفي، لما يمكن أن نتعلمه من هيدغر، خصوصاً حول مشروعه عن نسيان الوجود في الفكر الغربي. 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©