الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

فرح أنطون.. داعية التسامح الإبراهيمي

فرح أنطون
17 يونيو 2021 01:41

إميل أمين

عما قريب تحلُّ الذكرى المائة لرحيل المفكر العربي لبناني الأصل، فرح أنطون (مواليد 1874 طرابلس، لبنان، وتوفي 3 يوليو 1922 بالقاهرة)، وهو من أوائل من أسهموا في التأسيس النظري لمفهوم التسامح في الثقافة العربية، وقد فعل ذلك قبل عدة عقود من صدور الإعلان الرسمي لحقوق الإنسان، الذي تبنته الأمم المتحدة في 10 ديسمبر 1948.
ويصعب على المرء أن يحدد هوية واحدة لفرح أنطون، ابن طرابلس الذي أجهده البحث عن الحقيقة الكونية، ودعوته للتسامح والمدنية كطريق للخلاص من عبودية الدولة العثمانية ليرحل عن 48 عاماً بسكتة قلبية مفاجئة.
ولعل من المؤلم، في هذا المقام، أن نتناول في أحاديثنا عن التسامح أسماء مفكرين غربيين، ونغمط حق رموز عربية، قدمت لبيئتها ما لم يقدمه أحد.
والكتابة عن فرح أنطون، وكما أشار المفكر المصري الراحل د. رفعت السعيد، مسألة صعبة جداً، لأن أمواجها تأخذنا إلى بحور لا تنتهي، فكتاباته في الفلسفة والأديان والسياسة ورواياته ومسرحياته، بلا ضفاف، ما يفتح آفاقاً واسعة في طريق التنوير ودروب التنويريين.
ويمكن القطع بأن أكبر مفكر ترك انطباعاً في مسيرة فرح أنطون الحياتية التسامحية والتصالحية، هو أرنست رينان (1823-1892) المؤلف والمفكر الفرنسي الشهير. وقد رأى أنطون في رينان مثالاً متجسداً للمفكر غير المتعصب، بل المتسامح مع الذات ومع الآخر، فلم يكن رينان منحازاً لفكرة، أو معاضداً لجماعة دينية أو إيديولوجية، ولو سأله أحدهم؛ ما حزبك الذي تفضّل، لأجابه: حزبي البشر كلهم لأنني أخ لهم جميعاً لا لفريق منهم دون آخر.

وبقدر ما تأثر أنطون برينان، وروسو، ومونتسكيو، والكثير من المفكرين الغربيين، بالقدر نفسه عشق أيضاً أفكار مفكرين وفلاسفة عرب، في مقدمهم ابن رشد، وابن طفيل، والغزالي، وعمر الخيام، وآخرين.
وقد خصص أنطون ضمن كتاباته المتعددة الأشكال، عملاً خاصاً بابن رشد وفلسفته، ودافع بحرارة عن المدنية التي يسميها البعض الآخر العلمانية؛ أي فصل الدين عن الدولة.
وفي جميع أعماله كان فرح أنطون يهدي كتاباته إلى الأجيال العربية الجديدة في الشرق، ذاك الذي كان يئن تحت ضربات الظلام العثمانية، ولهذا هرب من لبنان إلى الإسكندرية على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، ومنها إلى القاهرة، بحثاً عن مناخ أكثر رحابة، كما فعل غالبية المفكرين الشوام، الذين طاردهم جند السلطان، واحتضنتهم مصر المحروسة.

الرؤية والتسامح
انطلقت رؤية أنطون عن التسامح، وقد استخدم في كتاباته أحياناً لفظة التساهل، لتعطي المعنى نفسه، من مفهوم روحي رفيع القدر خلّاق، هو أنه إذا كان الله يشرق شمسه على الأشرار والأخيار، المتدينين وغير المتدينين، فيجب على الإنسان ألا يضيّق على غيره لكون اعتقاده مخالفاً لمعتقده، وليس من حق أحد الحجر على حريته.
وقد قرأ فرح أنطون من الكتب في بضع سنين ما لا يقرؤه الإنسان في مائة سنة، وكانت روايته «أورشليم الجديدة»، أو «فتح العرب لبيت المقدس»، تمثيلاً أدبياً لمفهوم التسامح وإعادة قراءة أحداث التاريخ من خلاله، وخصوصاً في المدارات الدينية.
ولكن عن أي معنى ومبنى يحدثنا فرح أنطون عن التسامح من وجهة نظره؟
باختصار غير مُخل، يقرر أن المعتقد الديني لا يجب أن يكون أداة لتحديد أبعاد علاقتي مع الآخر، فالدين علاقة خصوصية بين المخلوق والخالق، ولهذا فإنه من غير المطلوب أن يدقق ويحقق الإنسان في دين أخيه، لأن هذا أمر لا يعنيه، وجُل ما يهمه أنه إنسان بتجرد كامل عن القناعات الروحية أو الفكرية.

  • من مؤلفات فرح أنطوان
    من مؤلفات فرح أنطوان

كان حلم أنطون للعالم العربي المستعبد من السلطان العثمانلي وأعوانه في البلاد العربية، يتمثل في مولد الدولة الوطنية المفرغة من الانتماءات الدينية، أو الولاءات الروحية، واعتبر أن التسامح هو أساس المدنية الحديثة، وقدم لذلك خمس ركائز فكرية، يمكننا أن نشير إليها في حدود ما يسمح الحير المتاح للكتابة، وهي كالتالي:
أولاً: التسامح يحرر العقل الإنساني من أية سلطة مقيدة، وذلك لصالح الحضارة الإنسانية وتقدمها.
ثانياً: التسامح وثيقة مؤكدة لا تصد ولا ترد في طريق المساواة بين أبناء الأمة الواحدة، ما يعني غياب التمييز على أسس المعتقدات أو الإيديولوجيات.
ثالثاً: التسامح يفصل بين السلطة الدنية التي تحكم برؤية أبدية أخروية، وبين السلطة الدينية التي تباشر حياة الناس وخدمتهم من منطلق زمني محدد وتشريعات وضعية.
رابعاً: التسامح يبين إشكالية الدولة الثيوقراطية وكيف أنها دولة هشة، وسلطاتها ضعيفة، لأنها تقع تحت رحمة مشاعر الجماهير الجامحة، وهذه عادة ما تكون ذات عواطف ملتهبة غير عقلانية.
خامساً: التسامح أفضل الطرق لتجنب محاولات الخلط غير المبرر بين الأديان، فالوحدة الدينية بحسب أنطون مستحيلة، لأنه على الرغم من أن الدين الحق واحد، فإن المصالح الدينية المتباينة مخالفة دائماً لبعضها بعضاً، وهذا هو السبب في أن الحكومات الدينية أقرب إلى خيارات الحرب، منها إلى السلم.
وعبر كافة كتابات فرح أنطون، نجد أنفسنا أمام داعية للتسامح الديني والسياسي والاجتماعي بين أبناء إبراهيم عليه السلام، في الشرق الأوسط والعالم العربي. إذ لم يكتب يوماً بوصفه مسيحياً أو مسلماً أو يهودياً، ولكن كتب باسم الإنسانية، ولهذا فليس بعجيب ولا غريب أن نعاود اليوم في عالمنا العربي قراءة ما سطّره، ونكتشف أنه كان لنا من بني جلدتنا ما سبق الحركات العالمية التي نادت بالمواطنة ودعت إلى التسامح.
وحين يغيب التسامح، تحل شريعة الغاب، ولهذا كتب أنطون يقول: «نحن نريد عوضاً عن هذه الإنسانية المضطربة المتشنجة، إنسانية هادئة مطمئنة، متمتعة بأمن وسلام، بنعم الأرض والسماء، وهذا لا يتم مع النظام الحاضر (السطوة العثمانية القميئة) والحالة الحاضرة».
ثمّ، هل كان فرح أنطون ملحداً كما تقوّل عليه البعض؟
بالقطع لا، فقد كان رجلاً مؤمناً، ربما غير طقوسي، ومنفتحاً في الوقت ذاته، يأخذ بجوهر الدين، ويرفض القشور والخزعبلات، كما يرفض التعصب.
وعلى مقربة من مرور مائة عام على رحيله، لا تزال كتابات فرح أنطون تدعو لتحرير العقول من التعصب الديني وضيق الأفق العقلي، وتهب سراجاً منيراً للشرق، في بحثه عن تقدم الأمم وترقي الشعوب... فهل نعيد قراءته من جديد؟

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©