الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الرسالة الأخيرة إلى «بازوليني»!

الرسالة الأخيرة إلى «بازوليني»!
1 يوليو 2021 01:50

إيتالو كالفينو:

لم يعد هناك وقت للرد على رسالته. في أسبوعية «إل موندو» بتاريخ 30 أكتوبر 1975، وجّه [الشاعر والكاتب والمخرج الإيطالي بيير باولو] بازوليني إليّ رسالة مفتوحة حول العنف في عالم اليوم... كان يساجل بخصوص مقالي المنشور في «كورييري ديلا سيرا» (8 أكتوبر 1975) حول جريمة «سيرسيو»، لأنني وصفت فيه سيرورة تقهقر المجتمع من دون أن أقدم تفسيراً، وبالأخص دون ذكر تفسيره للموضوع نفسه: يقوم المجتمع الاستهلاكي بهدم القيم السابقة، ليقيم مكانها عالماً قاسياً وفاقداً للمبادئ.

  • إيتالو كالفينو
    إيتالو كالفينو

الأسبوع الماضي، وتعليقاً عن سبب تأخري في الجواب، قفز إلى شفتي رد سريع سلبي، كلبي (بالمفهوم الفلسفي): «انتظر الجريمة التالية». لا يجب قط أن نكون كلبيين، ولو على سبيل المزاح... يبدو العالم، حيث تُقترف الجرائم، بعيداً بمسافة مطمئِنة جداً، عن الشخص المدعو إلى الكتابة عنها، وهو ينعم بهدوء مكتبه. وها قد مرت أيام قليلة. ولم يبطئ وقوع تلك الجريمة التي طلبت مني الصحيفة مقالاً عنها. ولكن، على بازوليني، لن أستطيع الرد: إنه الضحية.

  • بيير باولو بازوليني
    بيير باولو بازوليني

خطاب قديم
إن الحديث عن جزء من البورجوازية باعتباره مذنباً، خطاب قديم وميكانيكي -كتب بازوليني في رسالته. لو كان من ارتكب تلك الجرائم هم «فقراء» عشوائيات «بورغاطا» (Borgata) روما، أو «فقراء» مهاجرون من ميلانو أو تورينو، لكان الكلام عنها مختلفاً من حيث الشكل والقدر... ذلك أن جميع هؤلاء «الفقراء» يعتبرون مبدئياً منحرفين. حسناً، يستطيع هؤلاء «الفقراء»، أي شباب الشعب، القيام وهم يقومون فعلاً (كما تظهر ذلك الأخبار بوضوح مخيف) بالأفعال نفسها التي أتاها شباب حي باريولي، وبقصد مطابق... فماذا نستنتج؟ أن ثمة مصدر فساد بعيداً جداً وشاملاً.
 لا يمكننا أن لا نتأثر بمأساوية هذا النداء، المميزة لعدد من كتابات بازوليني، كما لو كان يريد تنبيهنا إلى خطر شَعَر بوقوعه الوشيك، وكان مع ذلك يركض نحوه دون توقف. وما به كان يؤكد الصورة التي أراد أن يعطينا عن نفسه: صورة الشهيد- الشاهد عن حقيقته، وصورة حامل فضيحة تكمن غائيتها في تعليم أخلاقي خاص به.

إشراقات الحقيقة
«أنا مغتاظ من الصمت الذي أحاط بي». لم يكن ذلك صحيحاً، أبداً لم يثر خطابه المتصل النقاشات العمومية بمقدار ما أثارها مؤخراً، بما كان لديه من إشراقات الحقيقة وسُحُب الظل. وليس صحيحاً أيضاً أني لم أعبّر عن رأيي، فقط كنت أضمّنه في سياقات أخرى، دون تسميته، وكان يَفهم جيداً أن المقصود هو عدم إرضاء شخصانيته، ولكن، عوض معاملتي بالمثل، كان يهاجمني، في تطابق تام مع مزاجه! 
 لن أستطيع اليوم الإفلات من الشخصنة، لأن الأمر يتعلق بموته. كان دائماً يربط بين القضايا العامة وتجربته المعيشة، وهذا المزيج من حياته ومنجزه يوجد في معطيات موته. وبرغم أنه لم يحاول أبداً الإخفاء، ولكني أعتقد أن حياته الشخصية تخصه لوحده، ولا نستطيع محاكمته. إن ما نعرف عن موته بسيط للغاية، ولكننا حينما نقف أمام لحظة الاغتيال، يكون كل شيء بحاجة إلى التفسير. أن تكون جميع عناصر القضية معروفة أو أن تأتي معطيات جديدة لتعقيدها، فإننا سنستمر طويلاً في طرح السؤال الأخير. 
 لو كنت حررت جوابي في حينه، لكنت الآن مستعداً للتعبير عن اتفاقي ولاسيما مع مقطع من رسالته: «من البدهي أنك تستند إلى يقينيات كانت مقبولة من قبل أيضاً، اليقينيات العلمانية، العقلية، الديمقراطية، التقدمية، وبوصفها ذلك لم تعد مقبولة. لقد استجدّت الصيرورة التاريخية وبقيت هذه اليقينيات كما كانت».

تحولات ممكنة
بعد التحقق من أن العالم أكثر تعقيداً وسوءاً مما كانت تعلنه التوقعات العقلية (الظواهر المرتبطة بتمديُن فوضوي، وباقتصاد مختلٍّ، وبنمط عيش تغيب فيه الوظائف والآمال المستقبلية بالنسبة لجميع الطبقات، ومأساوي خصوصاً بالنسبة للشباب)، لم يعد ممكناً في هذه الأثناء، ترقية عالم سابق كان يحمل في طياته كل بذور الفساد الحاضر.
 كان بوسع الحضارات الأقل تطوراً أن تعرض بعض الامتيازات بالمقارنة مع حضارتنا، ولكن فقط حينما كانت تُكَوِّن عالماً عضوياً، وكليةً متناغمة. فخلال ماضينا القريب، لم يكن ما كنا نَجُر خلفنا -والذي بدلاً من تحضيرنا للغد كان يجعله كارثياً للغاية- إلا بقايا فاسدة من حضارات أخرى. والمجتمعات المتقدمة المزعومة، حيث نعيش، تتعرض لأزمة في كل القارات، وإن كانت قدرات مواجهة الأزمة مختلفة. وربما سيكون التطور الحقيقي مستحيلاً، إلا إذا شمل الأرض كلها وفي الوقت ذاته، ولكن ذلك يبدو بعيداً جداً اليوم. ويجب أن ننتبه أكثر إلى ما يجري في العالم، وأن نفكر أكثر في مستقبلنا، وتحولات حاضرنا الممكنة.
 إن العنف المتكاثر الآن في مجتمعنا من دون شكل، ظاهرة جديدة، إذا ما أخذنا في الحسبان أن مجتمعات الأزمنة الماضية كانت توجه دوافعها العدوانية نحو منافذ قاسية بالقدر نفسه ولكنها جماعية أيضاً. إن تحويلها إلى طاقات مُوَجَّهة نحو أهداف مشتركة، يستطيع وحده إنقاذنا من قوة العنف المُدَمِّرة... إن ما أود طرحه هو نقطة منهجية. إن المدرسة تعيش أزمة في العالم، ولكنها تعمل كيفما اتفق في باقي البلدان الأخرى، وليس عندنا، ويمكن أن تخشى إيطاليا التحول، في خلال الخمسين سنة القادمة على الأقل، إلى محيط استعماري، و«بورغاطا» من البطالة والعنف!
 
أخلاق جديدة
ويكمن الفضل الكبير لبازوليني الكاتب، الذي دائماً ما أراد أن يكون رجل الفضيحة ورجل الأخلاق، في طرحه مشكل الأخلاق الجديدة، الشاملة لمناطق المعيش التي كانت تعتبر مظلمة، والتي كانت الأخلاق والإيديولوجيا تميل إلى إقصائها إلى هذا الحين. وليست المهمة سهلة، بطبيعة الحال، وكل الأمثلة الحالية تبدو اليوم متسرّعة، أكانت ما رفضه بازوليني أو ما دافع عنه بنفسه. وسيحتاج أكثر من جيل واحد إلى إعمال العقل قبل أن يستطيع بناء أخلاق جديدة صالحة للجميع، حتى لمن هم مقصيون منها الآن. ولكن شريطة أن نصل في الوقت المناسب، هنا السبيل الأقصر لإعطاء معنى للشهادات حول العنف التي أراد بازوليني أن يتركها لنا عبر مُنجزه وعبر موته أيضاً.

المصدر: صحيفة «كورييري ديلا سيرا» 4 نوفمبر 1975، أي بيومين بعد اغتيال بازوليني

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©