الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

حضارة السمكة الحمراء!

حضارة السمكة الحمراء!
1 يوليو 2021 02:00

الفاهم محمد

هل وعينا وإدراكاتنا لا تعدو أن تكون شبيهة بوعي تلك السمكة الحمراء الصغيرة في حوض السباحة؟ هذا، على أي حال، هو ما يراه الكاتب الفرنسي برونو باتينو في كتابه الذي يحمل العنوان نفسه: «حضارة السمكة الحمراء.. معالجة صغيرة لسوق الانتباه» الصادر عن دار غراسيه سنة 2019. وقد يبدو هذا العنوان غريباً، ولكنه يعتمد على استثمار استعارة، كي يفسر التأثير المهول، الذي تمارسه علينا اليوم الشبكة العنكبوتية، ووسائط ووسائل التواصل الاجتماعي. إن مدة تركيز وانتباه سمكة حمراء هو 8 ثوانٍ فقط، لذلك وهي تسبح في الحوض، تعتقد في نفسها أنها حرة وأنها تستكشف دائماً عالماً جديداً، في حين أنها تعيش في عالم ضيق مغلق. وفي نظر الكاتب أن هذا المثال ينطبق بشكل كبير على حالنا اليوم. فالشاب الذي يبحر في عالم «الإنترنت»، والذي ينتقل من صفحة إلى أخرى، لا تتعدى درجة انتباهه، هو أيضاً، 9 ثوانٍ فقط. هكذا إذن كأن الأسماك الحمراء هي البشر، والحوض هو الشاشات الرقمية، وفق هذه الاستعارة!
وبرونو باتينو إعلامي وصحافي باحث، كان عميداً للمعهد العالي للصحافة بفرنسا، كما أشرف على رئاسة القسم الفرنسي في القناة الثقافية الشهيرة ARTE، إضافة إلى العديد من المهام المهنية الأخرى. وما يريد أن يدافع عنه الباحث في كتابه هذا، هو أن وعينا يظل رهيناً لما تمنحنا إياه وسائل التواصل الاجتماعي، بحيث نصبح غير قادرين على تحديد اختياراتنا بأنفسنا، بل نكون مجبرين على الانتقال سريعاً من موضوع إلى آخر، فنتزحلق فوق القشور الخارجية للمعلومات، دون القدرة على التركيز على موضوع بعينه. وهذه إذن هي حضارة عدم الانتباه، وضعف التركيز، وضحالة التفكير. ولكن هل هناك من سبيل للنجاة من إسار الإدمان الرقمي وإنقاذ أذهاننا؟

الإدمان الشبكي
 فباستثمار علم النفس السلوكي وعلم الأعصاب، اختار عمالقة وادي السيلكون، جعل هذه التطبيقات كما لو أنها «ماكينات قمار» هدفها جلب انتباه المشاركين، عن طريق نظام المكافآت العشوائية، الذي يرمي في نهاية المطاف إلى خلق حالة من الإدمان الشبكي الرقمي. وهكذا فالتحول الرقمي الذي نعيشه، لا يخلو من مضار، ولا يمكن بأي حال من الأحوال، اعتباره عالماً طوباوياً جميلاً، كما يحلو لهذه الشركات أن تصوره لنا.
أمراض العصر الرقمي
ثمة العديد من الأمراض التي أصبحت الآن معروفة، باعتبارها أمراضاً ناتجة عن الإدمان على الهواتف، واللوحات الرقمية، والشبكة العنكبوتية. ونذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، النوموفوبيا nomophobie وهو مرض الخوف من فقدان الهاتف، أو مجرد الانفصال عنه. وهناك أيضاً رهاب اللامبالاة من طرف أقراننا، أي الخوف من أن لا تثير إدراجاتنا ومنشوراتنا اهتماماً في الشبكات الاجتماعية. هذا إضافة إلى كل أشكال الضعف العقلي، ومتلازمات القلق مثل الفصام الشخصي، وقلق الهوية الناتج عن الخلط بين صفحتنا في الواقع الافتراضي، ووضعنا في الواقع الفعلي. كما يتحدث الكتاب أيضاً عن تأثير زيغارنيك Effet Zeigarnik وهو مفهوم يرتبط في مجال الطب النفسي، بالقلق الذي يعترينا عندما لا ننهي عملاً ما، فالشعور بعدم الاكتمال يدفعنا دائماً إلى البحث عن المزيد.

أدوات للمقاومة
ينضم بروتو باتينو إلى كوكبة من الخبراء، الذين بدأ صوتهم يعلو في الآونة الأخيرة، مندّدين بالتأثير الجارف والمرَضي، الذي تمارسه علينا الوسائط الاجتماعية. ونذكر من هؤلاء مخترع «الإنترنت» تيم بيرنرز لي، والخبير السابق لأخلاقيات التصميم في «غوغل» تريستان هاريس، وروجر ماكنامي المستثمر في شركة «فيسبوك»... إن كل هؤلاء وغيرهم من الذين ظهروا مثلاً في البرنامج الوثائقي الشهير: «المعضلة الاجتماعية» the social dilemma كأزا راسكين وجوستين روزنشتاين وجارون لانييه، يؤكدون ضرورة فضح ما أصبح يصطلح عليه بـ«رأسمالية المراقبة»، أي العملية التي تسمح بالبحث عن المعلومات الخاصة، من أجل استغلالها لأغراض تجارية. وكذلك التصميم الموجه لهذه التطبيقات، بغرض خلق الإدمان والتأثير على العقول خاصة لدى المراهقين.
لقد أشار الكتاب إلى صحوة الضمير المتأخرة لدى بعض الشركات العملاقة ضمن ما يعرف بـ GAFAM أي «غوغل»، «أمازون»، «فيسبوك»، «آبل»، و«مايكرسوفت». وقد صرح شون باركر مثلاً: «الله وحده يعلم ما نفعله بأدمغة أطفالنا». أما تريستان هاريس، فقد قال: «إن الهدف الحقيقي لعمالقة التكنولوجيا هو جعل الناس متكلين من خلال استغلال ضعفهم النفسي». هذا في حين أكد تيم بيرنرز لي أننا: «نعلم الآن أن (الويب) قد فشلت، كان عليها أن تخدم الإنسانية، لقد فات الأمر، أدت المركزية المتزايدة لـ(الويب) إلى إنتاج ظاهرة ناشئة واسعة النطاق تنال من البشرية جمعاء». ورغم أن الكتاب يصف هذا الوضع الصعب الذي أصبحنا عليه، فهو يقدم لنا أيضاً مع ذلك بعض الحلول للمقاومة: قضاء وقت أقل أمام الشاشات الذكية. والتخلص من الهاتف النقال، خصوصاً في الفضاءات الأسرية، أو في أوقات الإجازة، والعودة إلى الاهتمام بالقراءة والكتاب. كما أن هنالك آخرين باتوا يطالبون اليوم بضرورة سن قوانين تحمي البيانات الشخصية.
وباختصار، لا ينبغي إهدار ما هو جميل في الروابط التقليدية الاجتماعية، مثل روابط الأسرة والمدرسة والأندية الاجتماعية والرياضية. إن هذا ليس حنيناً رومانسياً للعودة إلى الماضي ورفض الحضارة الرقمية، ولكن في الآن ذاته، لا يمكننا النظر أيضاً إلى هذه الثورة، كما لو أنها ستبني لنا عالماً طوباوياً جديداً. إن الاعتقاد الساذج بهذا الأمر، لن يجعل من يعتقده سوى سمكة ذهبية ضعيفة الذاكرة وعديمة الانتباه!

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©