الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الثقافة.. وسؤال النهوض الحضاري

الثقافة.. وسؤال النهوض الحضاري
15 يوليو 2021 00:50

د. عزالدين عناية

تَشِيع بين فئات واسعة من الناس، وليس بين العاملين في الحقل الثقافي فحسب، ثقةٌ في قدرة الثقافة على اجتراح التحولات الحضارية، وهو رصيد معنويّ إيجابي تحوزه الثقافة دون غيرها من العناصر الفاعلة في البناء الاجتماعي، رغم أنّ الثقافة تستند إلى رأسمال رمزي بالأساس، ولذلك كلّما أَلمّت بالمجتمعات صروف قاهرة، أو جابهت أوضاعاً صعبة الْتفَتَت إلى تاريخها ومخزونها القِيميّ تستلهم منهما الزاد والعون، ولكن السؤال يبقى: أيّ نوعية من الثقافة بوسعها القيام بذلك الدور النهضوي والإنهاضي؟ وما هي خاصيات تلك الثقافة؟ وهل ضمن السياق العربي الحالي تشكّل الثقافة عنصر دفع إلى الأمام أم جذب إلى الخلف؟
لو نظرنا إلى المسألة في حدود الواقع العربي نلحظ هيمنة تقاليد وعوائد في الاجتماع، تُشايع الثبات وتركن للرتابة والامتثالية، أي تلك الحالة التي يطلق عليها الغربيون الـ «Conformisme» التي تنفر من الجديد وتألف السائد، ما يجعل جملة من العناصر في ثقافتنا منخرطة في دور سكونيّ شبه سلبيّ. ويكفي أن نتأمّل المعارف التي تنتجها مؤسّسات محسوبة على الأدوار العلمية والمعرفية، لنرى أنّ الإنتاج الثقافي فيها يندرج ضمن وظيفة تقليدية، تتميّز بتكرار باهت، وقلّما يتطرّق فيها الباحثون والأكاديميون والناشطون الثقافيون إلى مراجعة الرصيد المعرفي المتهالك، أو تناول القضايا الفكرية ذات الأثر المباشر على الاجتماع، أو معالجة مسائل على صلة عملية ببيئة المعارف والعلوم والمناهج. إذ يُؤْثِر الناشط الثقافي لدينا الرتابة بدل المجازفة والمخاطرة، بفعل تعاظم الخشية لديه من الوقوع في المحظور، وكأنّ دورَ العمل الثقافي مقتصر على مسايرة النسق السائد، ممّا حوّل الفاعل الثقافي لدينا إلى «واعظ اجتماعي»، والحال أن من أولويات الفاعل الثقافي ترشيد المسارات الحضارية، وإسداء النصح بشأن الخيارات المعرفية، وتحفيز القدرات المنخرطة في العمل التنموي.

المثقـف.. مستنزف
فلا يمكن أن تنشأ ثقافة مؤثّرة وصانعة لروح التغيير، والمنتوج الثقافي والإبداع المعرفي كلاهما غير مندرج ضمن خطة إنمائية، تهدف إلى النهوض بالقدرات المعرفية والإمكانات العقلية لدى الناس، فضلاً عن ترشيد العمل الاجتماعي وترسيخ النظر العلمي، إذ غالباً ما يكون الفعل الثقافي لدينا محدود الأهداف قصير النظر، ومشوباً بطابع الخمول، بما يحوّل الفكر إلى عالة على ذاته ويفقده القدرة على تحديد مساراته.
لا ننكر وجود قدرات ثقافية معتبرة في الأوساط العربية، ولكن تلك القدرات تبدو في معظمها غير مفعّلة أو غير مدرَجة في سياقات معرفية إنتاجية، فالمثقّف لدينا مستنزَف بسبب انحصاره الإرادي في دور وظيفي حصري، ومرتبك بسبب فقدان بوصلة التغيير لديه، وقد أصبح على إثر تلك العوامل وغيرها ينتظر التغيير المعرفيّ، ولا يبذل الجهد المطلوب في صنعه أو الإسهام في رسم مساراته، ما يجعل الثقافة في كثير من الأحيان وظيفية، تعبّئ الفراغات وتشغل الأدوار، ومفتقدة للفعل النهضوي، إذ تعوزها تلك المسحة التحفيزية، ولذلك تبدو الثقافة في النسيج المجتمعي حاضرة ولكن غير فاعلة، ووظيفية ولكن ليست نهضوية.

دور الثقافة المزدوج
في مراحل سابقة طغت على الفعل الثقافي المشاريع الكبرى مع جملة من الكُتّاب، وترافقت بتطلّعات ترنو إلى إعادة تشكيل العقل، ومراجعة التراث، وبناء الشخصية. كان المفكر الفرد يرسم للجماهير طريقها ويملي عليها رسالة خلاصها، ولكن عصرنا الحالي يبدو قد تخلّص من ذلك التضخّم والادّعاء الذي رافق المفكر في القدرة على إحداث النقلة الفارقة، وبالتالي من تلك الوصاية أيضاً، إذ بات الفعل الثقافي أكثر شفافية وأكثر التصاقاً بالكائن الفرد الذي خلص إلى أنّ التغيير الثقافي لا يُملَى إملاءً، وهو أكبر من قدرات فرد بعينه.. فقد أضحى الفعل الثقافي أكثر نسبية في تقييم أثره وأكثر واقعية في موازنة قدراته، كما أنه في عصرنا الحالي ما عاد هناك مركز أوحد للثقافة، بل تعددية في المراكز، وما عادت هناك فئة تحتكر العمل الثقافي وإنما هناك تشاركية في صنع الحدث الثقافي، وهي كلها مؤشرات إيجابية على خروج الثقافة من أَسْر الفردانية إلى وقائع العمومية.
وتبعاً لدور الثقافة المزدوج، انتشرت مقولات تَصف ثقافات الشعوب بين الراكدة والمتحركة، والحيّة والميّتة، والبدائية والعصرية، وغيرها من النعوت، وهي توصيفات نابعة من تقديرات نسبية، لأنّ الثقافة تتلوّن بالروح المستشرية في المجتمعات، ولكنّ ذلك الدور الإيجابي المنوط بالثقافة لم يغب عن أعين علماء الاجتماع والمتابعين للتحولات الحضارية، لأجل توظيفه في التغيير الاجتماعي المنشود. 
ومن هذا الباب لطالما عوّلت التوجهات الأيديولوجية على الخيارات الثقافية، وحرصت على توظيف المقولات الثقافية، لتحقيق التغيير السريع الذي تصبو إليه، ولكن بعيداً عن المضامين الأيديولوجية التي يمكن أن تتلبّس بالثقافة أو الأطراف التي يمكن أن تستحوذ على مقدّراتها، من البيّن أنّ الثقافة ليست ترفاً ولا عبثاً ينتجه الرومانسيون والحالمون، وإنما هي إرهاصات أولية في تلمّس مسارات التحول الحضاري، وإن شئنا قلنا هي الصورة المعنوية في مقابل الصورة المادية للمنجَز الحضاري.

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©