السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الفن وعبقرية النساء

الفن وعبقرية النساء
16 سبتمبر 2021 01:03

د. سعيد توفيق

هناك اعتقاد راسخ في أذهان معظم الناس أن العبقرية ممتنعة على النساء، لأنها خصيصة ذكورية، وقد ساهمت أدبيات العبقرية في العصر الحديث في ترسيخ هذا الاعتقاد.. حيث استندت هذه الأدبيات في معظمها على أن الطبيعة الانفعالية للمرأة هي المسؤولة -بشكل أو بآخر- عن افتقار النساء إلى العبقرية: فبينما رأى روسو أن النساء يفتقرن إلى الانفعال المطلوب، رأى كانط أنهن غير قادرات على تنظيم انفعالاتهن بحيث تخضع لقاعدة أو قانون إلا إذا تعلمن ذلك من أزواجهن أو آبائهن. أما شوبنهاور فقد رأى صراحة أن النساء قد تكون فيهن موهبة، ولكن ليست فيهن عبقرية، لأنهن غير قادرات على التحرر الانفعالي مما هو ذاتي وشخصي، وبالتالي يكنّ غير قادرات على الرؤية الخالصة النزيهة التي تميز العبقرية.
وهذا الاعتقاد ربما عضده الواقع في رأي من يقول به، إذ لم تكن هناك نساء مبدعات على قدر المساواة مع فنانين عباقرة من أمثال: مايكل أنجلو أو رامبرانت أو ديلاكروا أو سيزان أو بيكاسو.. إلخ. وقد دعا هذا البعض إلى إثارة السؤال: لماذا لم يكن هناك وجود لفنانات كبيرات؟ الواقع أن الأمر نفسه قد يصدق في مجال الموسيقا والأدب والفلسفة: فلن نجد في الموسيقا نساء يدانين عبقرية باخ أو بيتهوفن أو حتى مندلسون، ولن نجد في الأدب من يدانين عبقرية شكسبير أو جوته، ولن نجد في الفلسفة مَن تداني عبقرية أفلاطون أو كانط أو هيدجر على سبيل المثال، وحتى الفيلسوفات اللاتي عشن برفقة فلاسفة كبار ظللن تابعات لهم، واكتسبن كثيراً من شهرتهن من خلال اقترانهن بهم: كان هذا حال حنا آرنت بالنسبة لهيدجر، وسيمون دي بوفوار بالنسبة لسارتر!

«نظرية الفن»
ولكن لكي نفسر غياب الأنثى عن الفن، ينبغي أن نتذكر الحقائق الاجتماعية والاقتصادية المتعلقة بحياة النساء في الماضي، هذا ما تؤكد عليه سينثيا فريلاند في كتابها «نظرية الفن» الذي قمنا بترجمته إلى العربية، حيث تتناول فريلاند المسألة من منظور النزعة النسوية، ولهذا فإنها تبين لنا أن الفنانين يحتاجون إلى تدريب، وأن المصورين المشهورين قد أتوا غالباً من شرائح اجتماعية معينة، والكثيرون منهم كان لهم آباء فنانون ساندوا اهتمام أبنائهم بالفن وشجعوه، في حين أن القليل جداً من الآباء فعلوا ذلك مع بناتهن. إن الفن يحتاج إلى رعاية (وهي للأسف ما لم تظفر به النساء الفنانات)، كما أنه يحتاج إلى تدريب أكاديمي (وهو ما امتنع على النساء). وخلال فترات طويلة من الماضي كانت التوقعات المحددة المنتظرة من دور المرأة في الحياة العائلية لا تشجعهن على رؤية الفن إلا باعتباره مجرد هواية.
والواقع أنه خلال العقود الأخيرة أصبح هناك اعتراف بأهمية عدد متزايد من النساء الفنانات: فنحن الآن نجد أن چورچيا أوكيف لها متحفها الخاص (في سانتا-في)، ومنذ سنة 1990 أصبح هناك «متحف قومي للمرأة» في واشنطن العاصمة، كما أن المشتغلات بالتصوير الفوتوغرافي والفنانات من أمثال: سيندي شيرمان Cindy Sherman وباربرا كروجر Barbara Kruger قد حققن الآن شهرةً وتقديراً عالمياً. وربما أمكننا القول إن التغير الهائل في الأحوال الاجتماعية قد عمل على تيسير مشاركة الأنثى بشكل أكبر في الفنون، وعلى قدر أكبر من الاعتراف بجدارة النساء الفنانات.

قمع اجتماعي
إن مناصرات النزعة النسوية ينتقدن فكرة القواعد والمعايير التي تحكم تصوراتنا عن العبقرية، لأن هذه القواعد تقدس الأفكار التقليدية المتعلقة بما يصنع «العظمة» في الفن والأدب والموسيقا.. إلخ، ويبدو أن هذه «العظمة» دائماً ما تستبعد النساء، وقد أدت هذه النزعة النسوية إلى وعي متزايد بأهمية فنانات مصورات راحلات من أمثال: آرتيميسيا جينتليشي Artemisia Gentileschi وروزا بونير Rosa Bonheur، وعلى نحو مشابه نجد أنه إذا كانت كتب تاريخ الموسيقا قد أغفلت الإبداعات الموسيقية للنساء، فإن هذا الموقف قد تغير الآن، إذ نجد اعترافاً ببعض النساء من مؤلِّفات الموسيقى مثل: كلارا شومان Clara Schumann وفاني هينسل Fanny Hensel، وبذلك فإنه يتم الآن تنقيح تاريخ الموسيقى، ليس من خلال النظر إليه باعتباره تاريخ «الناس العظام» و«الفترات العظيمة»، وإنما من خلال بذل مزيد من المحاولات للتركيز على تطور الوظيفة الاجتماعية للموسيقا ودورها الاجتماعي المتنامي، ومن ذلك البحث في الكيفية التي تأثرت بها المؤلِّفات الموسيقيات بنوعهن الجنسي: إنهن غالباً ما توقفن عن التأليف أو غيرن الاتجاه الذي اتخذن حينما تزوجن وأصبح لهن عائلات، ولأجل الامتثال للتوقعات الاجتماعية الصارمة لدور المرأة (أو ربما للمحاذير التي يفرضها الأزواج)، فإن بعضهن قد تخلين عن عملهن. 
لقد نشأت فاني ميندلسون هينسل Hensel Fanny Mendelssohn- أخت فليكس ميندلسون Felix Mendelssohn- في سياق داعم، حيث إن أمها تحديداً قد ضمنت لها تدريباً موسيقياً مساوياً للتدريب الذي ناله أخوها، لقد كانت موهبة «فاني» كبيرة، ولكنها لم تكن قادرة على نشر مؤلفاتها الموسيقية -ويرجع ذلك في جانب منه إلى أن أخاها المشهور أصر على أنه لم يكن من الملائم بالنسبة لامرأة في سياقها الاجتماعي أن تفعل ذلك- وقد كتب فليكس إلى أمهما يقول «إنه من الأجدى لها أن تعتني ببيتها ولا تفكر، لا في الجمهور ولا في عالم الموسيقا.. إن النشر سوف يعوقها فحسب عن قيامها بتلك الواجبات...»، ولذلك فقد انحصرت طاقة «فاني» الموسيقية في تأليف الأعمال التي يمكن أداؤها في الصالونات والمنازل أكثر مما يمكن أداؤها في قاعة العرض الموسيقي، وهناك عقبات مشابهة قد حدت من المردود الناتج عن عمل مؤلفات موسيقيات أخريات.
والمقصود من كل ما سبق هو التأكيد على خطأ القول بامتناع العبقرية على النساء، لأن العبقرية لدى النساء قد طمسها تاريخ طويل من الظروف الاجتماعية القمعية، كما أن عبقرية النساء يمكن أن تتجلى في مجالات معينة أكثر من غيرها.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©