الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

مبارك الرفيسا.. شاعر الحماسة

مبارك الرفيسا.. شاعر الحماسة
2 أكتوبر 2021 01:56

إبراهيم الملا

شيّدت بيت الشِعر في راس شامخ/ تجريه وديان سريع حدورها
تنظيم شِعرٍ من سراير قلوبنا/ على الغشامى مِعضلات ظهورها
إن غلّقت الأمثال من عند غيرنا/ نظهر مثايل غيرها من غزورها
وكم من غزيرٍ ما عطيناه سدّنا/ وحدّ يسيّد سدّها في صدورها

تتقاطع قصائد الشاعر الكبير «مبارك بن سلطان الرفيسا» مع فيض الحكمة المتدفق في قصائد الماجدي بن ظاهر - الأب الروحي لشعراء النبط في الإمارات - وهذا التقاطع، أو التداخل لا يشمل محتوى القصيدة فقط، بل يمسّ بناءها وطريقة سبكها أيضاً، وهذه القصيدة المجتزأة من الملحمة الشعرية الطويلة لمبارك الرفيسا، وعنوانها: «يتنا من الشرق نبّه» تؤكّد دون شك  عمق تجربته الإنسانية، وغزارة المعاني المتوفّرة بمعيّته، كما تشير مفرداته القوية إلى بلاغة تعبيرية اختصّ بها، وباتت خاضعة لإمكاناته اللغوية المنبثقة من شقيّن، الشقّ الأول منها يتبع الحدس والنباهة والتمكّن لدى الشاعر، بينما يتبع الشقّ الثاني المسار الذاتي المتمثّل في الأنَفَة الداخلية والثقة بالنفس والاعتزاز بالموهبة الشعرية.
إننا أمام شاعر يرتكز وبشموخ في أعالي المشهد الشعري، ولا يهمّه النظم المبعثر، والكلمات المتراصّة كيفما اتفق، والتي يرى أصحاب النظرة السطحية أنها تنتمي للشعر، بينما هي مجرّد تعابير هشّة تجري مثل مياه عابرة لا فائدة منها، ولا رجاء من منبعها ولا مصبّها، «شيّدت بيت الشِعر في راس شامخ/ تجريه وديان سريع حدورها»، فالشعر الذي ينظمه مبارك الرفيسا هو العلامة الفارقة والصفوة المنتقاة من ثنايا القلب ودرر القول، نظم متخلّص من شوائب الكلام، ومبتعد بمسافة طويلة عن ما هو عاديّ وبديهيّ ومكرّر، وهو شعرٌ يستعصي فهمه وهضمه من قبل بليدي الحسّ وقليليّ الاستيعاب، لأنه يخاطب أصحاب الأرواح الكبيرة، والعقول المشرقة، والأذهان المستنيرة: «تنظيم شِعرٍ من سراير قلوبنا/ على الغشامى معضلات ظهورها»، ويضيف شاعرنا بذات النفّس التعبيري المضيء، والنابع من الجرأة والثقة، لا من الخيلاء والتكبّر، أن خياله الشعري الخصب، يستوعب كل الصفات والصور والتشبيهات والأمثال، والتي لا يروم خصومه من الشعراء الآخرين الإتيان بها أو إيرادها في قصائدهم الضحلة، ذلك أنه صاحب فكر غزير، تنهزم أمامه الأشعار المحاصرة بنطاقها الضيّق وأفقها الملموم: «إن غلّقت الأمثال من عند غيرنا/ نظهر مثايل غيرها من غزورها»، ونرى في البيت الرابع من القصيدة وصفاً بليغاً، وتشبيهاً دقيقاً عند وضع المقارنات بين قيمة ونوعية ما يقدمه بالرفيسا من قصائد ذات طاقة تعبيرية متفجّرة ومتجاوزة لكل ما يقف أمامها من صور وخيالات وتراكيب تعجيزية، وبين ما يقدمه الشعراء الآخرون من أبيات تناور وتدور في مكانها دون أن تشكّل إضافة أو اختراقاً للشعر السائد، والضامر، والمكتفي بشكله الظاهريّ، ومن دون الانتباه أيضاً لجوهر الشعر، وتنوّع خطابه، وتشعّب رموزه وإيحاءاته ودلالاته: «وكم من غزيرٍ ما عطيناه سدّنا/ وحدّ يسيّد سدّها في صدورها»، وهذا الوصف العجيب في المقارنة بين نوعين من الشعر، يقودنا نحو تخوم مدهشة من الإحالات اللفظية الجامعة بين المبنى والمعنى، وبين الشاهد في متن الكلام والغائب في هامش التأويل، ذلك أن غزارة المخيلة لدى الشاعر أدّت إلى تصاغر السدود اللفظية أمامها، بينما يقف الكثير من الشعراء، وهم عاجزون عن التعبير عمّا يجول في خواطرهم، فلا تسعفهم الحيلة، ولا تعينهم مواردهم الشعرية الجافة على خوض المغامرة التعبيرية للوصول إلى عقل وقلب المتلقّي.
وترد في أبيات كثيرة من هذه الملحمة الشعرية، الإشارات الدالّة على استقلالية الشاعر مبارك الرفيسا، واتساع رؤيته، وكياسة رأيه، ونفاذية وعيه، فيما يتعلّق بأسرار الشعر، وتقنيات النظم، وانعكاسات البصيرة العارفة والغارفة من جزالة القصيدة وجمالها وتأثيرها وسحرها، قائلاً في هذا السياق: 
«كثيرٍ من حدٍّ حدا الناس مثله/ وإلّا نِحِنْ شوكٍ نشا من غدورها
حلفت ما أوطّيه راسي لشاعرٍ/ما دامت عيني باقياتٍ نظورها
متطّهرٍ قلبي عن اللّوم والردى/ والحيّ يشهد لي واللي في قبورها
ولا يرتوي من لا شرب في كفوفه/ والمريلة تبغي أهلها تدورها»

ابن البادية
ولد الشاعر مبارك بن سلطان بن مبارك بالرفيسا الكتبي، عام 1850م بمنطقة «مزيرع» في بادية الشارقة، وتوفي، رحمه الله بمنطقة «واسط» في الشارقة عام 1940م، واشتهر بالرفيسا بلقب «شاعر الحماسة»، لأنه شبّ وشاب في أزمنة وحقب شهدت الكثير من الحوادث العنيفة، والظروف الصعبة، وكان للشعر في تلك الفترة دور مؤثر وفاعل عند التعاطي مع الأحداث، ونقل أخبارها، وبث الروح المعنوية العالية لدى الأهالي المقبلين على مواجهتها وتجاوزها، وصولاً لتحقيق الأمن والاستقرار والسلام للجميع.
ويشير الدكتور راشد بن أحمد المزروعي في دراسة له عن الشاعر مبارك بالرفيسا أن تلك الظروف المتقلّبة والمحاطة بالمخاطر والأهوال، جعلت من شاعرنا صوتاً حماسياً ومنتمياً بقوة لقبيلته ووطنه وأرضه، حيث دخل السياسة دون قصد، فدمج الشعر بالحماسة، وهو موضوع لم يتطرق إليه أحد من الشعراء الشعبيين في عصره آنذاك، خاصة شعراء البادية، فكانت قصائده متجاوبة بصدق مع راهن الحال، وسيرورة المآل، وضاجّة بالعنفوان، والمشاركة الحسّية والمعنوية، فهو صاحب القصيدة الحماسية المشهورة التي يقول فيها:
«الصمع فيهن لا نبدّل ولا نبيع/ لي يفرقن عظم القرا م الهوادي»
والصمع نوع من أنواع البنادق القديمة المستخدمة في أواسط القرن الماضي، والهوادي المقصود بها القلب أو الفؤاد، ويوضح المزروعي أن مناسبة القصيدة تعود إلى حادثة وقعت في الثلاثينيات الماضية، عندما كان الشاعر مبارك الرفيسا حاضراً في مجلس الشيخ سلطان بن صقر القاسمي حاكم الشارقة الأسبق، وكان بالرفيسا يحمل معه بندقية من نوع «صمعه»، فانتقد الحضور تلك البندقية القديمة، لأنها لا تجاري البنادق الجديدة في دقّتها وقوتها مثل بنادق: «أم تاجين»، و«أم عشر» وغيرها، فقال القصيدة مفتخراً ببندقيته، وبقيمتها المعنوية، وحجم ارتباطه بها.
ويصف المزروعي شاعرنا مبارك بالرفيسا بأنه أحد أهم أعمدة الشعر الشعبي في الإمارات، وهو شاعر عاصر بدايات النفوذ البريطاني بالمنطقة، كما استطعم الثمار المرّة لنتائج الخلافات الحدودية والصراعات القبلية والحروب الداخلية، وكان جلّ شعره موجهاً للتعاطي مع هذه القضايا المتشابكة، التي وجد نفسه مجبراً على رصدها وتوثيقها وإبداء وجهة نظره تجاهها، وفي ذات الوقت كان متلهّفاً على زوال هذا العنف الصارخ أمام ناظريه، حتى ينعم الأهالي بالهدوء وحرية الحركة بين المناطق المختلفة دون خوف أو شكوك أو دخول في ملابسات وإشكالات لا طاقة للناس البسطاء والمحايدين على مجابهتها والتصدّي لها.
ويذكر المزروعي أن أسرة شاعرنا الكبير تنتمي إلى أسرة «الرفيسات»، التي ترجع في نسبها إلى عشيرة «المساعيد» إحدى أفخاذ قبيلة «بني قتب» الكريمة، حيث عاشت تلك الأسرة حياتها في المنطقة الممتدة بين الشارقة، ومناطق الذيد وما جاورها، حيث كانت أهم مرابعهم متمثلة في مناطق: «واسط» و«مزيرع» و«فلاح» و«الصجعة» و«مهذّب» و«حليو»، وفي الصيف كانوا ينتقلون إلى الواحات الزراعية في مناطق الذيد وفلج المعلّا، حيث اشتهرت تلك المناطق بمياهها العذبة التي تنساب من أفلاجها، كما اشتهرت تلك المناطق بمزارعها وتمورها التي تجود بها أراضيها في مواسم «القيظ».

مناظيم ومقالات وردحات
يؤكد الباحث الدكتور راشد المزروعي أن الشاعر مبارك بن سلطان بالرفيسا هو أحد كبار شعراء النبط في الإمارات، ولا يقل في جزالة شعره عن أشعار سعيد بن خلفان بن حلوه، إن لم يتفوّق عليه، كما أنه تساجل مع الشاعر الكبير سعيد بن عتيج الهاملي الذي عاصره، كما تساجل مع الشيخ بطي بن سهيل آل مكتوم، وقال فيه أكثر من قصيدة، وعاصر أيضاً الشاعر خليفة بن قنش المسعودي الكتبي، وعليه فإنه يعتبر من شعراء المرحلة الأولى من المرحلة الحديثة للشعراء النبط في الإمارات، ويضيف المزروعي أنه بالاطلاع على مجموعة من قصائده، نجد أن أغلبها مناظيم ومقالات وردحات، ونجد له أيضاً «ونّات»، أما أغراض شعره، فنجد أغلبها جاء في الفخر والحماسة والتفاعل مع الأحداث السياسية، كما نجد له بعض القصائد الغزلية والمدح والشكاوى، وبعض الهجاء، خاصة مع الشاعر حميد بن سعيد الهلّي من دبي.

طفولة في «مزيرع» 
قضى بالرفيسا طفولته في مناطق «مزيرع» وما جاورها بين أخواله من عشيرة «بني سرور»، ويرجع الفضل في تربيته إلى جدته من جهة والدته، وكانت اسم جدته: «الهادومه» وكانت شاعرة أيضاً، ولعله استقى موهبته الشعرية منها، حيث كان لها تأثير بالغ في تكوين شخصيته القوية، ودفعه للمغامرة والترحال ومواجهة المخاطر، والاعتماد على الذات، والاستقلالية عند اتخاذ القرارات، والدفاع عن مكتسبات بيئته وموطنه، فكان بالرفيسا في بدايات شبابه حاذقاً وذكياً وكان يفضّل رعي الإبل والتعامل معها، ما أكسبه القوة والخشونة، وتعلّم الصبر والفراسة والشجاعة، وعندما بلغ مبلغ الرجال كان يرتحل على ظهر ناقته إلى منطقة «ضنك» التابعة لإقليم «الظاهرة» في سلطنة عمان، حيث يقضي الصيف هناك، ثم يأتي بعد ذلك إلى أهله محملاً بالتمور في نهاية الموسم، وبعد زواج بالرفيسا استقر بمنطقة «واسط» في الشارقة، والتي تمتّعت بأهمية خاصة لدى أهل البادية حينها، نظراً لقربها من البحر ومن مدن الساحل في الشارقة وعجمان ودبي، وكانت واسط تشتهر بالمياه العذبة، وتعدّ مورداً معروفاً، وأرضاً مناسبة لزراعة الخضروات والنخيل، وينقل عنه أحفاده أنه كانت لديه ناقة يكدّها حطباً وأعلافاً نباتية برّية «ثمام» ويبيعها في الشارقة، أو يبادلها ببضائع أهل الساحل، والتي لم تكن تتوافر لدى سكان البادية.
رافق شاعرنا في فترة من حياته حاكم الشارقة الأسبق سلطان بن صقر بن خالد القاسمي (1924 - 1951) وقد قال فيه الكثير من قصائد المدح والتأييد والمحبة، ومثال ذلك قصيدته التي يؤيده فيها، ويوضّح في أبياتها سخطه على الاستعمار البريطاني للمنطقة، قائلاً: 
يا بوصقر لا تبعد الشوح عنّا/ خلنا جنوحك للعدو نتّجي بها
غبر الوجوه إتملّكوا في ديارنا/ نالوا الغنايم واهتنوا ذوق طيبها»
ووصفه للإنجليز بـ «غبر الوجوه» دليلاً على امتعاضه منهم ورفضه لوجودهم.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©