الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: ما علاقة اللغة بالطعام؟

د. عبدالله الغذامي يكتب: ما علاقة اللغة بالطعام؟
16 أكتوبر 2021 00:50

تشترك اللغة والطعام بقانون الذوق، فاللغة كما أنها خطاب في التواصل، فإنها كذلك خطاب في الذوق وكلما ترقت اللغة ذوقياً ترقى معها صاحب النص ومتلقي النص، ومثلها الطعام الذي هو في أصله لغة للجسد تقوم عليه وتتطلبه وظائف الجسد، لكنه أيضاً كحال اللغة يدخل بنظام المجاز والتذوق ويشير للمستوى الثقافي ويحمل دلالات رمزية وتراثية وله روابط إنسانية عميقة «قهوة أمي وكعكة أمي وخبز أمي إلخ»، وهي عبارات تصنع أثرها بمجرد نطقها وبمجرد سماعها، حيث تفتح أبواب الذاكرة العميقة التي تلغي حال الواقع وتحيل القائل والسامع معاً إلى عوالم خارقة للواقع ومتجاوزةٍ له نحو الماضي ونحو الحنين، وكأننا نعود أطفالاً برغبة منا وبتأثرٍ من رائحة الطعام وصورته الذهنية التي ستجلب معها حتماً صوراً عينيةً تشخص أمامنا وإن كانت في حكم الغياب.
وهناك علاقات مصاحبة بين اللغة والطعام سنراها وقت ترحالنا من لغتنا الأم ووطننا الأم إلى وطن آخر بلغة أخرى، وهذا سيترتب عليه ترحال من طعام إلى طعام وبمقدار ما يكون المكان جديداً عليك ولغته ليست لغتك، فستشم فوراً طعاماً آخر بمثل ما تسمع أصواتاً لغوية أخرى وهنا سيشترك السماع والشم في تحميل ذهنك لغةً وأطعمةً تختلف عما تختزنه ذهنيتك، وهنا تنتقل من حال ذوقية وحال نفسية غير ما كنت تألفه، وهذا يفسر معنى أن السفر تغيير جذري ينقلك من كون إلى كون، وهنا يحدث ما نسميه بالاستجمام حيث تستجم النفس وتغتسل من إرهاقها وتعبها ولهذا مفعول كبير على النفس البشرية ليس في كسب خبرة جديدة فحسب، بل للتخلص من خبرة قديمة أو ستكون قديمة كلما تعمقت الخبرة الجديدة، وسيتلو ذلك تغيرات عميقة في الذوق نفسه مع الأطعمة ومع اللغة حتى الأطعمة المعتادة لك واللغة التي هي لغتك الأصلية.
ستتحولان لأحوال أخرى تبعاً لقوة التجارب الجديدة وستحب أطعمةً لم تكن تتصور أنك ستحبها كمثل تذوقنا للهمبورجر وهو مثال واضح جداً، حيث يعجبنا طعام لم يكن ليعجبنا قط لو حكمنا عليه وفق ذائقتنا الأم. ومثله التغيرات التي تدخل على خطابنا بصيغ ومجازات لم تكن ضمن ذهنيتنا قبل تعرضنا لخبرة عميقة مع لغة لم تكن لغتنا، ومثل هذا سيحدث للمعقولات التي تترسخ عندنا حسب خبراتنا الذاتية مع الحياة والظروف وشروط الواقع على أن تغير المعقولات تبعاً لتغير الخبرات سيكون مثل تغير خبرة الطعام المختلف واللغة المختلفة ومعها كلها يتغير الذوق والوجدان فنتذوق الأغاني والأشعار والمجازات الجديدة، وبالتالي ستتذوق معقولات غير معقولاتك السابقة، مما يعني أن العقل البشري مثله مثل الذوق البشري يتغير باستمرار رغم ظنوننا بترسخ معقولاتنا وأنها هي المتحكم بالمتغيرات، غير أن الواقع يظل يؤكد أن المتغيرات تغير المعقولات بمقدار قوة وإغرائية المتغير، ولذا فعقولنا متغيرة وأحكامها متغيرة تماماً كتغير المذاقات والتفضيلات الشعورية والحسية. على أن الذوق سلطان لا نستطيع عصيانه أو قمعه لذا تطرب النفوس لأشياء دون أشياء وكل ذلك خارج توجيهنا أو تحكمنا. كما أن المعقولات تتغير أيضاً بشروطها الخاصة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©