الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

ماذا عن شقاء الشعراء..؟

ماذا عن شقاء الشعراء..؟
2 يونيو 2022 01:16

رؤوف صدّيق
ترجمة: أحمد حميدة

وقد انتظمت، وعلى نسق حثيث، ردّة فعل تستنكر استغلال الألم من أجل ادّعاء حيازة درجة ما من العبقريّة، فيما اعتقد البعض حينها في وجود نزعة إجلال للشّاعر الذي يكون قد مات قهراً وكمداً جرّاء الفقر والبؤس، وقد استمدّت هذه النّزعة مواقفها من الزّخم الذي عرفته يومذاك الحياة الأدبيّة، فأين يكون مكمن الصّواب في ذلك؟ وأين يكون مكمن الخطأ؟..

رحيل مبكر
الثابت، هو ذلك القبر الجماعيّ الذي وُوري فيه التّراب شعراء كثيرون وافاهم الأجل بصورة مبكّرة: فمنهم من مات مُعدِماً، ومنهم من اختطفه المرض، ومنهم من عاش فريسة للجنون، ومن رموز هذه الظّاهرة، الإنجليزيّ توماس شاتّرتون: هذا النّيزك الذي بالكاد عبر فاحترق ولم يبلغ بالكاد سنّ السابعة عشرة، وقد انتحر هذا الأخير ليُفلت من قبضة الجوع الذي كان يترصّده، وذلك بعد أن هجر أسرته ووطنه! 
ثمّ كان جون كيتس الذي قضى في سنّ الخامسة والعشرين جرّاء إصابته بسلّ رئوي، هذا المرض الذي حصد مئات الأرواح في تلك الأيّام، والذي كان يتهدّد بصورة خاصّة الشّعراء الذين عاشوا عيشة بؤس وإملاق! ثمّ إنجليزيّ آخر هو إرنست دووسون الذي عثر عليه في باريس، وهو في حالة تلف متقدّم، وغيّبه الموت في سنّ الثالثة والثّلاثين بعد عودته بقليل إلى أرض الوطن.. أمّا في فرنسا، فقد نذكر جول لافورج الذي غادر هذا العالم في سنّ السّابعة والعشرين على إثر إصابته هو الآخر بسلّ رئويّ، ثمّ لوتريامون كاتب «أناشيد ملدورور» الذي طوته المنيّة ولم تكن سنّه يومذاك تتجاوز الرّابعة والعشرين. 
أمّا بودلير الذي تأخر عنه الموت لحين وتوفّي في سنّ السّادسة والأربعين، فقد ذاق بدوره ويلات العسر وانقطعت أنفاسه بعد إصابته بمرض الزّهريّ الذي رافقه لسنوات طوال، فيما لفظ رمبو أنفاسه الأخيرة وهو في سنّ السّابعة والثّلاثين بعد أن فرّ من «جحيم» حياة الشّاعر، ولم يختم حينها سنّ العشرين، وكانت له قبل ذلك الرّحيل هذه الكلمات: «أشعر الآن أنّني ملعون، وإنّي لأمقت وطني هذا، وأوثر الآن الاستسلام للنّوم على الحصى وأنا نشوان». 
أمّا في ألمانيا، فقد تُذكّرنا أسماء مثل نوفاليس وفون كلايست بأنّ هذه الظّاهرة اللاّفتة اكتست حينها بعداً أوروبيّاً، وإن كانت حدّتها متباينة من حالة إلى أخرى.

فيون والصّعاليك
لقد كان ذلك الشّقاء المبيد والبؤس الطّاحن موضوعاً شعريّاً قائماً بذاته، نجده ماثلاً في قصائد خالدة مثل قصيد «طائر القطرس» لبودلير الذي نعثر فيه على وصف بليغ لمآل الشّاعر: «ما أشبه الشاعر بأمير السّحاب هذا.. إنّه يطاول العاصفة ويستصغر مطلِق السّهام.. منفيّ على الأرض.. لا يثنيه استهزاء.. وأجنحته العظيمة.. تعيقه عن السّير». أمّا مالاّرميه فقد ختم قصيدة «التّعاسة» بهذ الأبيات: «حين تقيّأ الجميع ازدراءهم في وجهه.. عاجز وبكلمات وضيعة، كان يستعطف الصّاعقة.. وهؤلاء الأبطال الذين أرهقهم توتّر ساخر.. كانوا يمضون بصورة مثيرة للسّخرية لشنق أنفسهم على عمود الإنارة». 
وقد نشير أيضاً إلى نيكولا جلبار (1750-1780) الذي توفّي في سنّ الثّلاثين، وكتب في قصيده «الشّاعر المنبوذ»: «يهون الشّاعر وسط جمهور المبتذلين.. وإن كان عند الولادة موسوماً بسوء الطّالع.. فهو يرفض أن يكون لأعماله المعاش الوافي.. فماذا يمكن أن يتبقّى له؟.. إيه ! معذرة أيّها الأب، لقد أنبأتني بذلك، وكنت لا أصدّقك.. ماذا يتبقّى له؟..إنّه الحياء والهلاك».
لقد افترض بعضهم أنّ ذلك البلاء الذي كان يصيب الشّاعر مردّه إلى الظرفيّة الخاصّة التي ميّزت ذلك العصر.. وأشار هؤلاء إلى أزمة الرّعاية في صلب مجتمعات أربكتها الثّورات المتكرّرة، مضيفين أنّ المناخ الثّقافي كان يومها يدفع إلى الإفراط وإلى تفشّي أشكال من الحياة لا تخلو من الرّعونة، وأخيراً أنّ صحّة الشّاعر التي كانت هشّة بطبعها، جعلته يغدو في سياق تلك الأوضاع ضحيّة «محبّبة».. والتّبرير هنا يحيل على استفحال تلك الظّاهرة وليس إلى الظّاهرة ذاتها، والمؤرّخون الذين تأمّلوا في العلاقة بين الشّعر والشّقاء، وحاولوا التفكّر في بداياتها، لا يتردّدون في العودة إلى ماضٍ بعيد سابق للقرن التّاسع عشر وثوراته، ولعلّ الوجه الأبرز الذي افتتح ذلك الحفل التّعيس القاتم.. هو فرنسوا فيون (1431-1463)، ومعه نحن حينئذ في سياق زمن كان يشكّل نهاية العصر الوسيط.
وشخصيّة فيون جديرة حقّاً بأن تستوقفنا، والبحث في وضعيّته لا يقتصر على تقديم أجوبة عن تساؤلاتنا، لأنّه يوسّع مجال الحوار على نحو يهمّنا في هذا المقام، ويعطيه وجهة تجعله قريباً من اهتماماتنا، فمع روتبوف الذي سبقه في التمرّد، جسّد فيون روح العصيان الذي برز في الشّعر، ولكن ضدّ ماذا كان فيون يعلن عصيانه؟ لقد كان ينتفض ضدّ نظام قائم يجعل من الشّاعر مدّاحاً، وليس فحسب ضدّ إرث كان يعيّن للشّاعر في مواضيع محدّدة وأسلوب في التّأليف كان عليه أن يحظى بالاستحسان والرّضا، فثورته كانت تلامس حينئذ اللّغة ذاتها.
ولم يكن فيون مجرّد شخص مستهتر وطائش.. إنّه ليذكّرنا بصعاليك الجزيرة العربيّة قبل الإسلام، أولئك الشّعراء الذين كان بعضهم من قاطعي الطّرق، والذين لم يفلح أيّ قانون بشريّ في ردعهم.. وفي أنطولوجيا للشّعر الفرنسي، كانت لأندري جيد هذه الكلمات للتّعريف بفيون «الكثير من الشّعراء كانوا قد ارتبطوا بالبلاطات، أمّا فيون فقد أفنى نفسه وسط الصّعاليك وقطّاع الطّرق..».

  • بول فيرلين
    بول فيرلين

رفض للشّعر الغزلي
ما احتفظت به ذاكرة الأجيال من فيون، نصّان يعرفان بال«وصيّتين»: في أحدهما، وبنبرة ساخرة ومضحكة، يتحدّث فيون عن كلّ العطايا التي وهبها لممثّلين من أصحاب النّفوذ، وسبقت كتابة وصيّته تلك، قبل أن يغادر باريس التي حكم عليه فيها بالنّفي.. أمّا الوصيّة الثّانية فقد جمعت قصائد قصصيّة تألّفت من 2023 بيتاً، وجاءت نبرتها مشحونة بالكثير من الصّرامة، وبحضور طاغ لموضوع الموت، وفيها، نجد قصيدته ذّائعة الصّيت «أغنية سيّدات الزّمن العتيق»، التي لحّنها حديثاً جورج براسّنس.
لقد أثار فهم قصائد فيون ولفترة طويلة الكثير من الإشكالات، ولا يزال الأمر كذلك، رغم التقدّم الذي تحقّق في هذا المجال، ومردّ هذا إلى أنّ الشّاعر كان يتحدّث بفرنسيّة مختلفة جدّاً عن تلك التي نعرفها، والتي هيمنت بين النّاس حتّى نهاية القرن الثّامن عشر، وكانت لغة نظمها متأثّرة بتعابير عاميّة مقنّنة، نتحدّث بصددها عن «معجم محاراتي»: وهي عاميّة لا يفهمها جميع النّاس، ويعني ذلك أنّ قصائد فيون كانت في الغالب رسائل مشفّرة موجّهة أساساً إلى رفقاء التّيه والضّلال، وقد يذهب البعض إلى أنّ هذا الخليط من الأساليب من شأنه أن يطمس نقاوة اللّغة الشّعريّة، ولكنّنا نرى أيضاً أنّها ترجمة لقطيعة الشّاعر مع تلك المهمّة التي أثقلت طويلاً كاهله، أي أن يتحدّث بصورة محبّبة. هكذا.. وبعد أن كان الشّاعر يسعى إلى الظّفر برضا المجتمع، أصبح في النّهاية يعمل على تحدّيه.

اللغة المشفّرة والسّخرية اللاذعة 
وثمّة علاقة واضحة بين اللّغة المشفّرة لفيون والسّخرية اللاذعة التي يتستخدمها روتبوف في قصائده، وما يصل بين الإثنين -التمرّد- هو بالذّات ما يحدّد على المدى الزّمني، وبعيداً عن السّياقات السّياسيّة والاقتصاديّة الخاصّة، ظاهرة اللّعنة في علاقتها بالموهبة الشّعريّة!
ولكن، فيمَ يهمّنا مثال فيون على الوجه الأخصّ، نحن الذين ورثنا النّواميس الشّعريّة الشّرقيّة؟ فكما روتبوف من جديد، ولكن بشكل أكثر حدّة، ثمّة عند فيون هجر للشّعر الغزلي، غير أنّ هذا الغزل انتمى في جانب كبير منه -عبر الأندلس في البداية، ثمّ عبر الشّعراء الجوّالين- إلى شعرنا العذريّ. ويبدو«أنّ ذلك الشّعر العذريّ قد استعاد مجدّداً الموضوع القديم للحبّ المستحيل، الذي كان في قلب الشّعر العربي قبل الإسلام، ونستخدم هنا صيغة التّرجيح (يبدو)عمداً، لأنّه في الحقيقة، لا يعود هذا الشّعر العذريّ إلى الشّعر العربيّ القديم إلاّ ليجرّده من طراوة نَفَسِهِ المحتدم والجموح، فلم يعد الحبّ المستحيل، الحيّز الذي ينكشف فيه الجانب المأساويّ لوجود الإنسان: إنّه على العكس من ذلك، المكان الذي تسعى فيه الرّوح، بما يشبه التّدريب الرّواقيّ، إلى مغالبة رغباتها، وبالتّالي التحرّر منها، فلم تعد المحبوبة لتمجّد، والحبّ الذي يكنّه لها الشّاعر لم يعد ليبلغ الذّروة، كما لم تعد لمأساة الفراق نكهة اللاّمحتمل، فغدت غاية الشّاعر هكذا هي مقاومة مصيره الحالك وحظه الكالح.

أرتو.. التمرّد على الشّعر
بنبذه للشّعر الغزلي، تصالح فرنسوا فيون من جديد مع ما أكسب الشّعر الجاهلي أسباب العظمة والرّفعة، وكان تأمّله الشّعريّ في محنة الإنسان وفي وجوده العرضيّ، بمثابة رجع صدى للتّراتيل التي كان يرسلها شعراء الجاهليّة أمام المشهد الموجع للمخيّم المهجور الذي اختفت منه المحبوبة.
وهذا هو الذي يستوقفنا بالتّحديد في سيرة فيون ويجعلنا نتساءل: كيف كانت مثل تلك الوثبة ممكنة في أرض مسيحيّة، فيما كان هذا الأمر دوماً غير متاح في بلاد الإسلام؟. لا يعزى هذا فحسب إلى غياب الرّقابة في فرنسا وما جاورها -رقابة الملوك ورجال الكنيسة- ولكنّ أولئك الذين كانوا يعملون على إحباطها كانوا بدورهم مستنفرين في هذا الصّدد - الناشرون وكلّ ذلك الجمهور من القرّاء الذين كانوا يجدون في مثل هذا الأدب غذاء محبّباً.. إنّهم لم يتخلّفوا فحسب عن تلك الدّعوة، وإنّما حاولوا الإمساك بكلّ وسيلة قد تؤثّر في سير التّاريخ..!
ويمكن القول على سبيل الاختصار، إنّ ثمّة فيما يخصّ الشّعراء «الملعونين» علامة صدام قديم بين نمطين من الوجود الإنسانيّ، يترجمان أحياناً بطريقة عنيفة عن المطالبة بعلاقة باللّغة لا تكون داعمة للسّياسة القائمة، فمن من النّاس من لا تستهويه تلك الدّعوة وتدفعه إلى الأخذ بأسباب سعادة تامّة لا يعكّرها الموت.. ذلك هو ما يتبقّى من سيرة الوجوه الأخيرة للشّاعر «الملعون» مثل أنتونان أرتو، ذاك الذي رفع سقف التمرّد إلى مستويات غير مسبوقة، وكان تبعاً لذلك الأكثر تطرّفاً. 
وقد كشف أرتو بصورة واضحة عن وجه الصّراع الذي سينخرط فيه الشّاعر، خاصّة في علاقته بالشّعر ذاته، وفي تمرّده على الشّعر كانت له هذه الكلمات: «لا أرضى بكلمة تأتيني من رغبة جنسيّة وهميّة»، وللإعجاب الذي يبديه الشّاعر بنفسه، بالنّظر إلى «الرّغبة الوهميّة» التي ينعتها البعض ب«الإلهام»، سيلجأ أرتو إلى التمرّد: التمرّد على «التّجسيد الرّديء للكلمة، الذي لم يكن بالنّسبة للإنسان سوى وفاق من الجبن والخداع».
هكذا يكون أرتو قد رفع عالياً الاشتباه الذي أفصح عنه فرلين بخصوص «المناقبيّين» و«المُضجرين».. حدّ أنّه أصبح يرغب في هجر الشّعر لفائدة المسرح. فالكتابة، حتّى وإن كانت شعريّة، فهي بالنّسبة لأرتو «امّحاء للجسد»، بينما يتعلّق الأمر بالاحتفاء بالجسد وبتلك «الحركة الحالمة التي لا تحدث سوى مرّة واحدة».. وأيّ موقف آخر في مجال الفنّ هو محض خداع للحياة بما تنطوي عليه من أشياء غير قابلة للتّمثيل.
والحال أنّ الوجه الثّاني لثورة الشّاعر «الملعون»، كان ويبقى هو الإخلاص الجامح للحياة: الحياة الأكثر غضاضة والأشدّ قساوة، ومن ثمّة تكون تلك، هي طريقته في مواجهة الموت، لأنّ الاثنين ينموان سويّاً وعلى نحو متواز، فلا يمكن أن نحتفي بالحياة دون أن نترك الموت يقتحم المجال من كلّ جانب!
وهاينريش فون كلايست الذي انتحر في سنّ الرّابعة والثّلاثين لأنّه كان لا يريد أن يعمّر أكثر من حبيبته المصابة بداء السّرطان، كان قد كتب على قبره بيتاً شعريّاً مقتطفاً من إحدى مسرحيّاته: «إيه أيّها الخلود، إنّ كلّك لي الآن»، في ما وراء البؤس والمرض، والوحدة والجنون، أي تلك المحن التي انقصفت أمامها حياة الكثيرين من الشّعراء، ثمّة شيء غامض يدفع بهؤلاء لمواجهة الموت، أو على الأقلّ عدم خشيته والفرار منه، ولاشكّ في أنّ الأمر كان كذلك، ولذا.. فمهما اختزلت حياتهم، واختصرت إبداعاتهم، فإنّ أسماءهم ستظلّ محفورة بأحرف متلألئة على جفون القبّة الزّرقاء..!، لقد كان الموت يطويهم، ولكنّ جزءاً منهم كان يظلّ نابضاً، لا يطاله موت ولا فناء!

 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©