السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

جدلية الشعر والفلسفة

جدلية الشعر والفلسفة
21 يوليو 2022 00:15

بقلم: رؤوف صدّيق
ترجمة: أحمد حميدة

يمكن أن نعتبر أنّ كلّ فلسفة حقيقة بهذه التّسمية تحتاج، فضلاً عن علم للوجود ونظام للأخلاق.. إلى علم للجمال أو إلى «إستيطيقا»، تتناول الفنون على قدر تنوّعها واختلافها. فمن فنّ البناء إلى الموسيقى، مروراً بالرّسم والنّحت والشّعر، ثمّة علاقة بالحقيقة لا تتّخذ بالضّرورة وجهة المفهوم أو الفكرة. وبتحديد طبيعة تلك الوجهة، يحدّد الفيلسوف عبر المقارنة، وجهته الخاصّة. وكلمة إستيطيقا تمنحنا بصورة مباشرة.. إشارة دالّة في هذا الخصوص، طالما أنّ الأصل الإغريقي للكلمة يحيل على الشّعور والإحساس... أي أن يظلّ الفنّ ترجماناً للمشاعر والأحاسيس، فيما قد تبقى الفلسفة مفصِحة عن فعاليّات العقل.
وإذ يقدّم على هذا النّحو، يكون الشّعر أحد الفنون الجميلة التي كانت محلّ انشغال في المجال الإستيطيقيّ، وقد توضّح لنا الأسلوب الخاصّ الذي ساهم في تحرّره من مهمّته في مجال علاقته بالفلسفة وبالأشكال الفنيّة الأخرى. ولنا أن نتساءل هنا، إن لم يكن ذلك الأسلوب من التّعاطي قد أثار مشكلة حقيقيّة، وإن لم تكن الفلسفة في تمشّيها قد اصطدمت بعائق ما وضع شرعيّتها ذاتها موضع السّؤال.
ومن الناحية النظرية.. ليس ثمّة من شيء يستعصي على المساءلة، والمساءلة تتطلّب من جانب الفلسفة جهداً من أجل صياغة المفاهيم التي تستوعبها. وبهذا المعنى، لا نرى ما يمكن أن يجنيه الشّعر من كونه يشكّل حالة استثناء. فمنذ نشأتها في بلاد اليونان، ترسّخت الفلسفة كأسلوب متمرّد على الفكر، يتوق في كلّ الحالات إلى التعرّف على الأصل.. «الأرشي». ولذا.. كنّا نراها ترفض الفكرة التي تتشكّل بصورة طبيعيّة في أذهاننا، حين كانت تحاصرنا الأشياء.. منتثرة ومبدّدة. وحين نعيد كلّ شيء إلى وحدة الكلّ، الذي هو مبدؤها، فإنّنا نكون بذلك قد حدّدنا مكانتها التي تستحقّ، وأعربنا في الوقت نفسه عن حقيقتها بعيداً عن فوضى تجلّياتها المتغيّرة.
وكذا الشّأن بالنّسبة للشّعر، كما أيّ شيء آخر: فهو لم يزغ عن النّظرة المستقصية والمحقّقة للفيلسوف. ولكنّ الشّعر هو الذي يعرب أيضاً عن «الأرشي» أو البداية الأولى. وهو ليس موضوعاً من بين مواضيع أخرى تستدعي الفحص والتّدقيق الفلسفي، لأنّ الشّعر ينهض أيضاً كمنافس. وحين ننصت إلى تغريدته، فإنّه يعرّج بنا إلى بُعد يتموضع خارج الزّمن، بُعد يحدّثنا عمّا يأتي قبل الزّمن، الذي منه.. يسجّل الزّمن ذاته حلوله في رحاب الوجود.
قد يكون الشّعر جرّد من أهليّته من قبل الفلاسفة، في مجال بحثه عن المبدأ الأوّل لكلّ الأشياء، ولكنّ ذلك لا يمنع أن يكون في ما مضى قد حظي بتلك المكانة، وإن كان احتلاله لها رهين منزلته. فيما تحتلّ الفلسفة وضعيّة ذلك الذي يريد أن يكون في ذات الوقت القاضي والخصم!. وأن تكون الفلسفة كذلك، أي.. القاضي والخصم، فإنّ ذلك يطرح مسألة مشروعيّتها، خاصّة حين تتعارض مع الأسطورة، أي الخطاب الذي ينتجه الشّعر -وعلى الوجه الأخصّ خطاب هوميروس وهزيود- لتستهلّ الفلسفة بذلك مسيرتها مع فلاسفة ما قبل السّقراطيّة: طاليس.. أنكسيماندر وغيرهم.

مقاربة ملتبسة
لقد تصادف بروز الفلسفة مع الفترة التي شهدت الصّراع بينها وبين الشّعر. وأفلاطون حين قرر طرد الشّعراء من مدينته المثاليّة، لم يكن ليقدم على عمل تجديديّ، بل إنّه كان على العكس من ذلك قد استمرّ في معاداة الفلسفة بصورة جوهريّة. وكانت تلك المعاداة قد تبلورت قبله، لتنخرط في قلب المشروع الفلسفي.
وتعرِّف الفلسفة نفسها على أنّها بحث عقلانيّ عن الحقيقة، ملمّحة بذلك إلى وجود بحث لاعقلانيّ، بحث لا يستمدّ تمشّيه من «اللّوغوس» (العقل) وإنّما من «ميتوس» (الأسطورة). ويعني هذا بصورة فوريّة، أنّ الشّعر يتموضع في حيّز من الفكر، ولا تتوفّر له تبعاً لذلك أسباب التّوفيق في ما يتوق إليه. فما ينتجه الشّعر، أي الأسطورة، يترجم بالتأكيد عن تمشٍّ محدّد في بحثه عن الحقيقة، ولكن أيضاً عن إخفاقه في بلوغ تلك الحقيقة. وفي الواقع، أنّ حالة الإنتثار التي تميّز الواقع، والتي تحجب الحقيقة عوض كشفها، لن يزيلها الشّعر، بل إنّها ستزداد رسوخاً وثبوتاً. وحينئذ، يتعلّق الأمر بتصحيح المسار والانطلاق في اتّجاه معاكس لبلوغ الهدف..
غير أنّ المسألة الحقيقة بالطّرح هنا هي معرفة ما إذا كان هذا الإصرار على النّظر إلى الفلسفة من زاوية الإخفاق، مترجماً عن رغبة الفلسفة في منح ذاتها شرعيّة أعلى. وذلك هو الموشورالذي أشرنا إليه: تأكيد للذّات كنموذج جديد يسمح بالإفصاح عن حقيقة الواقع. وحتّى إن أقررنا بأنّ هذا الموشور لا يفسّر كلّ شيء، ولا يفقد الفلسفة كلّ وجاهتها في تثمينها الشّعر، فلابدّ من الاعتراف بأنّ شروط حياد الفلسفة في حكمها على الشّعر، تحتاج حقّاً إلى الإثبات. وماذا لو كان الإخفاق المفترض للشّعر لا يعدو كونه حلماً طائشاً للعقل! وماذا لو كان الإخفاق يكمن في عدم إدراك الأسلوب الخاصّ للشّعر في مقاربة الحقيقة؟

وإنّه لمن اللاّفت حقّاً، لدى أفلاطون كما لدى أرسطوطاليس، أن يكون موقف الارتياب تجاه الشّعر، منطوياً على قدر من التباين، بل من الالتباس. ويبدو ذلك ببالغ الوضوح عند أفلاطون، الذي يعترف في «فيدرا» بأنّ الأسطورة هي التي تكون قادرة على إدراك الحقيقة -حقيقة جوهر الرّوح- حيث لا يملك الخطاب البشري غير الإقرار بحدوده في مجال إدراك الحقائق الكليّة. ويقيناً أنّه يشير بذلك إلى تماثل ما، ولكنّ هذا هو المطلوب لمتابعة طريق يغدو فيه العقل عديم الحيلة. وفي النصّ نفسه، يتحدّث أفلاطون أيضاً عن الشّعر بوصفه خطاباً يمكن أن يكون حيّزاً لكلام مطلق. ويوحي ذلك بأنّ الأسطورة ولئن كانت ثمرة ذلك الخطاب المتحمّس، فإنّها تستجيب حينها لمعايير الخطاب المطلق، وهو الخطاب الذي لا يتوقّف حين يستنفد الخطاب البشري موارده وهو يتلمّس طريقه إلى الحقيقة.
أمّا عند أرسطوطاليس فإنّ هذا الانقلاب لا يبرز إلاّ متى قبلنا الاعتراف بالأهمية المركزيّة للفلسفة العمليّة وأسبقيّتها، قياساً إلى الفلسفة النظريّة من ناحية، ومن ناحية ثانية، إلى الأهميّة المركزيّة أيضاً للبطل التّراجيديّ في سلوك الإنسان السويّ والمستقيم.
فمن أين ينبثق البطل التّراجيديّ إن لم يكن من الأسطورة؟ وبالتّالي من خطاب الشّاعر! ولنلفت الانتباه هنا إلى المكانة الرّفيعة التي يبوّئها أرسطوطاليس للشّعر عبر هذا الموضوع، موضوع البطل التراجيديّ، الذي يشكّل مفتاح تحقيق الإنسان لإنسانيّته عبر الاختبارات، وعبر وجود تكون مسيرة الإنسان فيه موضوعة تحت علامة الأحداث العرَضيّة. كما لو أنّه بفضل هذا الإنتاج المنسلّ من خيال الشّاعر، توهب للإنسان الإشارة التي سيدرك بها حقيقته الذّاتيّة: وهو ما لا يحدث إلاّ متى حقّقه الإنسان عبر الفعل.

من خادم إلى كاهن
من الواضح أنّ موضوع حضور الشّعر عند أرسطوطاليس لا يمكن تخمينه بيُسر وسهولة، لأنّ النصّ الذي يخصّصه للشّعر -الشّعريّة- لا يسمح بإدراك البعد العرَضيّ للشّعر في أعماله. فثمّة، إن جاز القول، حضور مجوّف، وبالتّالي فهو مخفيّ. ولكنّ ما يفسّر أن تكون تلك الأهميّة قد ظلّت لفترة طويلة متفلّتة عن الانتباه، هو أنّ القراءة كانت تعكس حضور فلسفة قامت باستبعاد الشّعر من حلبة الحقيقة.
لقد شعرت فلسفة أرسطوطاليس، في التّعليقات التي أثارتها، باحتجاب الشّعر كمنافس في مجال تقصّي الحقيقة، كما كان الأمر في الفكر القروسطي. كان ثمّة بالفعل شعر روحيّ سيسمح بظهور أسماء بارزة في العالم المسيحي، مثل جان ديلاكروا في إسبانيا أو إيكهارت في ألمانيا، غير أنّ ذلك الشّعر الذي كان مستلهماً، ولئن كان نتاج إبداع بشري، كان ينظر إليه بوصفه صدى ثانياً لخطاب مطلق أكثر سريّة وحميميّة. أمّا الشّعر الدّنيوي الذي يحتلّ مرتبة ثانية، فقد كان يبدو غير جدير بالاهتمام حتّى يهتمّ به فيلسوف بقامة أرسطوطاليس. فمن جانب كما من الجانب الآخر، كانت الطّريق لا تنبئ بوجود مخرج.
ولا شكّ في أنّ ذلك التطوّر قد أثار فكرة أنّه، إذا كان موضوع الشّعر عند أرسطوطاليس (كمنافس في مجال البحث عن الحقيقة) غير بيِّن في النّصوص، فإنّ ذلك يعود إلى أنه كان يحتلّ مكانة نسبيّة، بل مكانة لا تذكر. وذلك في نظرنا موقف مراوغ ومخادع.
فما الذي حدث حين مالت الفلسفة انطلاقاً من ديكارت إلى تفنيد ادّعاءات الكنيسة واستنكرت خوضها في مسألة الحقيقة، فيما أصبحت تلك الحقيقة مسألة حصريّة تهمّ الفكر المرتاب؟ ما حدث هو أنّ الشّعر طفا على السّطح من جديد، ولكن ليكتفي بالمكانة المتواضعة التي تعود إلى الخيال في المشروع العقلانيّ لمعرفة الواقع. وسيحظى بحقّ العودة إلى ساحة المدينة، ولكن كان عليه التخلّي عن كلّ ادّعاءاته التي قد تجعله منافساً للعقل. وإن رفض هذا وأبدى في هذا السّياق موقفاً عنيداً، سيعامل تبعاً لذلك ويدفع به إلى حيث المهرّجون والمجانين.
وإن قبِل، فسيسمح له بأن يضيف إلى حقائق العقل ما يجعله أكثر جاذبيّة. 
وهذا ما سيحدث إلى حدّ مجيء الرّومنطيقيّين الذين، وهم يحتفون بسحر الأشياء وبتحوّلاتها السريّة، فتحوا الباب من جديد لشعر أكثر نفاسة. وينبغي أن نتذكّر في هذا الإطار شخصيّات مثل يوهان فولفانغ جوته، الذي كان في ذات الوقت، شغوفاً بالإبتكارات العلميّة، وبالمظاهر المبهمة التي تسري في الطّبيعة وفي تجلّياتها الحيّة. فبقدر ما كان الفكر العقلاني يصطدم، في مجال رصد الطّبيعة، بشيء لا يتّفق مع القوانين المألوفة للعقل، يتخلّى الشّعر عن دوره كخادم، ليتولّى دور الكاهن. 
فالشّعر عند جوته هو الذي يسكب الحكمة في مجال المعرفة العلميّة، التي لو تركت لذاتها، لغدت شيطانيّة، كما يلمح إلى ذلك فاوست.

مسألة «العبقريّة»
تتسربل الطّبيعة بحجاب إيزيس، وتستبعد عمل الاستكشاف لدى العلماء، لتيمّم ناحية الأشياء التي قد لا تكون سوى لحاء لتلك الأشياء. فثمّة عالم مجهول يتفلّت لا محالة عن إدراكنا، وكانط صاحب الفلسفة النّقديّة هو الذي أقرّ ذلك. وهو الذي رسم حدود المعرفة الإنسانيّة، حين عاد بها إلى مجال الظّواهر، ليذكّر بأنّها تظلّ بشكل معمّق رهينة عامل الإحساس: الإحساس بالمكان والزّمان. ومن ثمّة، فإنّ الشّعر يروم أن يكون صدى لما هو متملّص، للشّيء في ذاته، مع اللّعب على وتر الانسجام: إنّه يتحدّث مع العالم من الرّوح إلى الرّوح، حيث لا يمسك العلم من الأشياء، إلاّ بما يتناغم مع إمكانيّات تمثيل العالم بوساطة الفكر البشري.
وفي الإستيطيقا الكانطيّة، يحتلّ الشّاعر مرتبة العبقري، ويشترك في تلك الوظيفة مع كلّ الفنّانين الآخرين، ولكنّه يجسّد الفكر المتحرّر من كلّ القواعد القبليّة. وهذا ما يجعل القصيد متى أدرك مستوى الفنون الجميلة، عملاً فريداً وغير قابل للمحاكاة. وما يتوقّف عليه، هو مزاج طبيعيّ يتميّز بقوّة الخيال، ولكن أيضاً بقدرة على تحقيق حالة من الانسجام مع وظيفة الإدراك. ومتى تمّ تعديله بهذا الأسلوب، اكتسب موهبة التّعبير عن الغاية. إنّ الجميل في القصيد، كما في كلّ عمل فنيّ، يصرّح بالغاية التي تحكم العالم والأشياء، فيما أنّ رجل العلم لا يجني غير بعض الرّوابط في النّسيج الكبير للعلل التي يتألّف منها عالم الظّواهر.
ولكنّ إعادة تأهيل الشّعر بالفلسفة، هل يكون بإمكانها أن تزيل تماماً الاستثناء المثار في البداية، والمتعلّق بمدى شرعيّة الفلسفة في الحكم على الشّعر؟ يقيناً أنّ الفلسفة النّقديّة تدعم ثورة الشّعر على العقلانيّة «الكلاسّيكيّة»، ولكن أليس هدفها من ذلك هو وضعها في خدمة مثال تمنح هي لنفسها الامتياز الحصريّ لتعريفه؟ ستكون مسألة العبقريّة حينئذ حافزاً لحوار بالغ الإفادة بين الفلاسفة. وفي مثل هذا الإطار، ينخرط التأمّل في الشّعر إلى غاية يومنا هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©