الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

بدلاً من أن تلعن الرتابة.. قل: مرحباً أيُّها الملل

بدلاً من أن تلعن الرتابة.. قل: مرحباً أيُّها الملل
2 فبراير 2023 01:21

أسماء جزائري

الرّتابة ثقلها صفر من الأحداث الجديدة، هي استقرار التّكرار عند مُعدلات ثابتة التَّوقع، التّكرار الذّي لا يعني دائماً توكيداً في عالم الأدب أكثر من أن يكون إشارة يضعُها الكاتب على النَّص حتّى يتبدّى لنا السأم، الشُّعور الذّي انتابه وقتها وانتقل إلينا لاإرادياً أو أراد لنا الوقُوع فيه كأنّما تلتقي عين القارئ بعين الكاتب في الكلمات. هي نوع من الفراغ الذّي تحدثت عنه الفيزياء بأنّه ليس فارغاً، وهي الدّافع للملل حيث يشعُر الإنسان بأنّ الأحداث توقّفت بينما يواصل الزّمن تقدّمه بالسُّرعة ذاتها، يشعر أنّه يعيش يومياً لكنّه لا يشعر بالعيش، يتكلم يومياً لكنّه لا يقول شيئاً، يسير مسافات طويلة ويبدِّل جغرافيات كثيرة لكنّه ثابت الوقائع لا الموقع. 

نهاية اللعبة
وقد جسد صموئيل بيكيت في مسرحيّته العبثيّة «نهاية اللعبة» أبطالاً جامدين في الزّمن المتحرك (كلوف يعاني من علّة في ساقيه تمنعه من الجلوس، نيل وناغ مقعدان، هام أعمى) ما يجعل دوران اللّعبة بشكل مُتشابه صانعاً مللاً من شُخوص يُعيدون حواراتهم يومياً بينما قام الكاتب بتعطيل المنبه في المسرحيّة، ما يجعلنا أمام زمن ثابت يحدث داخل القصة بدلاً من حدوث القصة داخله كأحد اهتمامات المدرسة الواقعيّة (هام: كم الساعة، كلوف: إياها كالعادة)، مشيراً لتوالد النهاية في كلِّ بداية داخل مسرح للتّساقط، وفي مسافة التّساقط لا يعُود ثمَّة قياس لتطوّر أو لتفكير، سوى تزامنيّة التّساقط وكلّ شيء، العالم، القامات، الأجساد التّواريخ والذّاكرة كما قدم بوول شاوول ترجمته لهذا العمل.فهل يمُوت الوقت وتستمرُّ الشّخصية في الألم، أم يتألَّم الوقت لموت ديناميكيّة أحداث شخُوصه؟

ألم الأوقات
الملل نوع من الألم، ألم الأوقات التّي تتعرّض للاحتجاز داخل الحدث الفارغ، وألم الشُّخوص الذّين لم يعد لهم حدثٌ في وقت أُفرغ من ديناميكيته الحدثيّة حيث يُصبح الزّمن فيه يقاس بالحدث لا بالثواني، ولهذا فإن كان الجسد يشعر بجراحه وموته فالأمر سينتقل إلى الوقت باعتبار الإنسان كائناً زمنياً، وما تحسّره على الذّي مضى إلا نوع من تحسّر الزّمن على ما يفقدُه من ذاته الزّمنية تماماً كما يتحسَّر الجسد على فُقدان أحد أعضائه. لقد صرّح مارسيل بروست في مذكِّراته دون حرج أنّه يبكي من شدّة الملل، لأنّه يدرك ماهيّة الزّمن الذّي أفنى عمره بحثاً عنه، وصرخ فان كوخ في رسالة لأخيه ثيو «إنني أتعفّنُ مللاً» حين عجز عن علاج تلك الألوان المُتحرّكة في داخله بتحويلها إلى لوحة تقضي على ألوانه القديمة التّي أنقذته يوماً ما. أما شوبنهاور فيخبرنا بأنّ الحياة تتأرجح كالبندول بين الألم والملل، ويكتب الإيطالي ألبرتو مورافيا قصتّه «الملل» حتى يتعالى بها على ما أصبح مُشبعاً به، وتأثّر الشاعر سيزاري بافيزي بأبطال مورافيا الذّين يُشبهونه فسمّى نفسه «أستاذاً في فنّ عدم الاستمتاع بالحياة»، أمّا روكنتان الذّي ترجم ملله العظيم بالغثيان فيُريد إشعارنا بحالة الضيق الوجوديّ الذيّ تُعانيه الذَّات والآخر والمكان والزّمان في رائعة جان بول سارتر «الغثيان». أمّا نحن الذّين نستيقظ كلّ صباح ونتساءل عن ذلك التَّعب المُستيقظ معنا رغم أنّنا لتوّنا أكملنا إحدى أهمّ فقرات الرّاحة (النوم) فننسى دائماً أنّ الملل شكل من أشكال التَّعب، وما يستيقظ معنا هو الرُّوتين الذي يجعل الرُّوح في تكاسل وخُمول، الأمر الذّي يختفي مثلاً لو كان لنا حافز. إنّه دور قاسٍ عبر ما نتوقّعه من أيام لا تتقدّم بل تتقادم، يحدث الأمر أيضاً حين تنحرف الميول الجذريّة وتتخذ لها سبيلاً مطواعاً، ويزداد انحرافها كلّما اقتربت من الرفاهيّة الخطرة، الرّفاهية بمعناها التعّويضي فبينما تواصل الإمكانيات المعوِّضة تقدُّمها يتوقّف الإنسان العاديّ عن تحقيق ميوله الفرديّ داخل المجموعة، فنتحدث عن العشيرة القديمة التّي تُعيد إنجاب أجدادنا، ولكننا نغضُّ الطّرف عن العشيرة المُتطورة التّي تُفاقمُ خمولنا والتي أجابت عن أسئلة كثيرة، وإن صحّ ذلك فهل إعجابنا بالكتاب الأوائل بقولنا «لقد كتبوا كل شيء وعن كلّ شيء» هو تأنيب مضمر، أم أننا قاصرون في تصريف الملل؟الأرجح أنّنا تلاميذ كسالى ومُجمّدون أمام الدروس الطازجة.

الملل أدبياً
لا يطلب الإنسان من أيامه أن تنتهي بل أن تختلف، دون أن ينسى أن اختلافها لا ينبع فقط من ابتكار حبله داخل البئر، بل في كيفيّة ربطه بأشياء ثابتة ومألوفة علينا لتحريك عثورنا على مساحة أمان جديدة تتكفل برفعنا إلى مستوى آخر من الذّات، بعد أن يتحوّل الملل إلى وظيفة انتباه وتأمّل يعيد البحث في الموجودات، ولكن في الموجود داخل الموجود الذي لم يتطرّق لرؤيته سابقاً، ففي الوقت الذّي تركد فيه الأحداث تبدأ معركة الذّات تندفع نحو الحُلول، لقد أبدع لأنّه أصيب بالرّكود كنوع من عدوى خطيرة. لقد منحه التمعّن الدقيق في الأشياء العاديّة، فلماذا يُنصحُ في القراءة والكتابة الابتعاد عن الأعمال الباعثة للملل؟
لأننا لا نملكُ النفَس الطويل في الغطس داخل الكتابة.
والياباني الذّي يُحب الأسماك الطازجة استدعاه الأمر للإبحار بعيداً لأن شواطئه لا تحوي الكمية الكافية، وفكرّ للحفاظ على حيويتها بوضع  سمكة قرش داخل كل خزان حفظ أسماك لتقُوم بالتَّحرك والدّوران داخله وتتغذى على بعض الأسماك الموجودة فيه لتبعث الحيويّة في البقيّة التي تظل تتحرك إلى أن تعود السّفينة. والأمر ذاته في عالم يشُوبه سمك قرش الملل الذّي يجعل الحياة طازجة، ويتحوّل إلى حافز بعد أن كان ضغطاً، وإلى تجاوب مع الفراغ بمفهوم الفيزياء كأنما نمتلئ من الوقت الفارغ، وإلى منفذ بعد أن كان خوفاً، الخوف ذاته الذّي رافق «تنتالوس» أسطورة الشّقاء الذّي لا ينتهي والكابوس الذي لا يستطيع الاستيقاظ منه حين تتحوّل الحياة من حوله إلى نعيم لا يطاله داخل حركة دؤوبة ومملة لأبديّة الجائع تحت ظلال ناضجة، والعطِش وهو السّابح في مياه عذبة.

أدب «السندويتش»
لم نحترم الملل أدبياً، كما أنّنا صنعنا إشكاليّات، فبينما شكّل اللّعب بثيمة الملل في الرّوايات العظيمة المُملة منعرجاً مهماً، راح الكثيرون يذمّونه، وبهذا الحرمان ولدت القراءات السّريعة وأدب «السندويتش»، وراح البعض يُسمي تلك المُطوّلات بالحشو الأمر الذّي لطالما كان جوهر ما يتناوله النقاد الغربيون في روايات كثيرة، فأكثر الأعمال نجاحاً هي أعمال اشتكى القراء من مللها، كمارسيل بروست وجيمس جويس وتشارلز ديكنز ووولف وديستويفيسكي وغيرهم من الأسماء الخالدة، فنجد يوكيو ميشيما مثلاً يسهب في الوصف في رائعته «بحور الخصب» حتى نشعر بالنُّعاس كما عبر عنه ماركيز حين قرأ «الجميلات النائمات» ولكننا نظلّ متمسكين بالعمل حتّى آخره كما نفعل بثلاثية هاروكي موراكامي 1Q84، وعلى عكس الكاتب أنيس منصور الذي عنون أحد أعماله بـ«وداعاً أيها الملل» لوّحوا بيد عارفة: مرحباً أيّها الملل.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©