الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

الكتاب.. بهجة العقول

الكتاب.. بهجة العقول
9 مارس 2023 01:08

أحمد حميدة

لا شيء أكثر إمتاعاً من من كتاب جيّد يخلّصنا من سطوة الروتين اليوميّ المملّ، ويجعلنا نطوّف في العوالم اللّطيفة للأمل والحلم، ونمضي غير مكترثين بمنغّصات وتوتّرات الزّمن. ولكن أيّ شكل من الكتب قد نختار للفوز بتلك المتعة؟ هل يكون الكتاب الرّقمي أم الكتاب الورقي؟ قد نتبيّن ذلك بلا لبس متى استطلعنا آراء ومواقف القرّاء، وتبينَّا مدى شغفهم وتمسّكهم بالكتاب الورقي.
وهنا لابد أن نتذكّر، ابتداءً، للكتاب الورقي رائحة وتجسُّداً وكياناً. فأن نقلّب أوراقه، فذلك يعدّ، في حد ذاته، جزءاً لا يتجزّأ من متعة القراءة، حتّى أنّ البعض قد لا يقوى على التخلّص من تلك العادة المتكرّرة، فيما يغيب ذلك الإحساس تماماً مع الكتاب الرّقمي. أضف إلى هذا أيضاً ما يتيحه لنا هذا الكتاب من إمكانيّة تصفّحه للاستئناس بمحتواه، فيما تتعذّر تلك الإمكانيّة كذلك مع الكتاب الورقي. هذا.. فضلاً عن أنّ الكتاب الورقي غالباً ما يكون قابلاً للإعارة والإهداء، فيما لا يتأتّى ذلك لقارئ الكتاب الرّقميّ، الذي ليس بوسعه منح أداة قراءته للآخرين.

كتاب.. في كل مكان
وإن كانت أدوات القراءة الإلكترونيّة تشغّل بطاقة مخزّنة وطويلة الأمد، فإنّ هذه الطّاقة مآلها النّفاد لا محالة. ولذا.. فلابدّ من إعادة شحنها للوصول عبر المسالك الإلكترونيّة إلى الكتاب. ولا يعدّ هذا بالأمر المحبّب متى تواجدنا في عمق أدغال الأمازون أو غيرها من المناطق النائية، فيما يكون الأمر على عكس ذلك تماماً مع الكتاب الورقي الذي يمكن أن يُقرأ في أيّ مكان ولا يتأثّر البتّة بالعوارض الجغرافيّة.

ملائم للإغفاء والنّوم
ولا نحتاج إلى فتح النّور لقراءة كتاب رقميّ قبل النّوم، ولذا.. فنحن لا نزعج أحداً حين نريد إنهاء قراءة آخر رواية شغفنا بقراءتها وتتبّع أحداثها. ولكن ما قد يبدو هنا عاملاً إيجابيّاً، قد يكشف أيضاً عن جانب من القصور في أداء الكتاب الرّقميّ، إذ إنّ الضّياء المنبعث من أداة القراءة الرّقميّة لا يثير حالة الإغفاء كما هي الحال مع الكتاب الورقيّ.

كتاب غير زمنيّ
إن كان من الصّحيح أنّ ورق الكتاب الورقي يبقى مادّة هشّة وقابلة للتّلف، فإنّ الكتب الرّقميّة من ناحيتها تبقى هي أيضاً رهينة تطوّر المحامل الرّقميّة. فالبرمجيّات وصيغ الملفّات المستخدمة اليوم يمكن أن تتطوّر، بل قد تختفي تماماً، في المستقبل، في خضمّ التقدّم التّكنولوجيّ. فما عسى أن يحدث لو توقّفت شركة آمازون مثلاً عن إنتاج أدوات القراءة الإلكترونيّة؟ وما عسى أن يكون مصير المكتبة الرّقميّة في هذه الحالة؟ مثل هذا السؤال لا يثيره البتّة الكتاب الورقيّ، لأنّه متى رُوعيت في صناعته معايير تقنية وجماليّة دقيقة، اكتسب هذا الكتاب أسباب البقاء والديمومة والانتشار.

انتماء لعالم الإبداع
وأن يمسك كاتب بيديه كتابه المطبوع، فتلك لحظة استثنائيّة في حياة المبدعين من الكُتّاب، لأنّها تعزّز لديهم الانطباع بأنّهم حقيقة يمارسون الكتابة ويسجّلون حضورهم بجدارة في عالم الإبداع الأدبي. فضلاً عن أنّ الكُتّاب الذين يطبعون كتبهم بإمكانيّاتهم الخاصّة، غالباً ما يكونون قادرين على إتاحة كتاباتهم الورقيّة، فيحتفظون بما يكونون قد كتبوه، بل قد يوزّعون نسخاً من كتبهم تلك على أقرب النّاس إليهم.

الجماليّة الفكريّة والوظيفيّة
إنّ التنوّع الكبير للكتب المقترحة على المناضد ورفوف المكتبات أو في دكاكين باعة الكتب القديمة، كتب الجيب، الكتب الفاخرة، الكتب المنشورة قديماً، الكتب المزركشة، الكتب المجلّدة.. وغيرها، قد تضفي على الكتاب الورقي قيمة خاصّة ومحدّدة. ولا يتعلّق الأمر هنا بالوضعيّة المحبّبة للكتب الفنيّة تحديداً، ولا بالتّحف الأدبيّة وما تحظى به من فرادة إبداعيّة، ولكن.. على نحو أضيق، بمنجز استثنائيّ له من المميّزات ما يجعله منجزاً موثوقاً وأصيلاً إستيطيقيّاً، منجزاً يرتفع من حيث جماليّته إلى مستوى المنجز التّشكيليّ غير المسبوق والمنزّه عن الافتعال. وحينها تكون للكتاب الورقيّ فعلاً قيمة جماليّة حقيقية تستدعي الإعجاب وتثير مشاعر الاستحسان والتّقدير. 
كما تسهم نظرة القارئ لذلك الكتاب في دعم هذا الجانب الجمالي، لأنّ العين عامّة تكون أقدر على لمس وتثمين جوانبه الإستيطيقيّة الصّرفة.
لقد ارتقت كتب فريدة ومجاميع أدبيّة قيّمة (مثل منشورات دار «لا بلياد» للنّشر بفرنسا) ومنشورات نفيسة إلى مرتبة «الكتب الرّائعة»، التي قد نميّزها عن «كتب جميلة» أخرى تصدر تحت مسمّيات كثيرة، وتعكس حالة الزّخم والثراء الذي بات يميّز إنتاج دور النّشر، مثل كتاب الجيب والكتاب الفنّي والكتاب العلمي.. والتي تحظى بمثل تلك المكانة المغبوطة لـ«الكتب الرّائعة»، أو ينظر إليها على أنّها كذلك بالفعل.
وفضلاً عن الجماليّة الأصيلة للكتاب الورقي، فإنّنا قد ندعى إلى خوض تجربة الإثراء البصري والتّشكيلي والعضوي التي يدعونا إليها الكتاب الورقي، فيكون بإمكان هذا الكتاب هكذا استحداث محيط آسر تنبعث منه نكهة حميمة تكشف أحياناً عن فضاءات وأجواء بالغة الرّوعة، على غرار الكتب التي تزخر بها المكتبات الخاصّة.
 ولذا.. فإنّ سطوة تلك النّكهة تغدو هي الأخرى جزءاً من التجربة الوجوديّة الحسيّة التي تثيرها فينا علاقتنا بالكتاب، مترجمة هكذا عن تغيّر في علاقتنا بالعالم وانبثاق رؤية له تكون قد تغيّرت بفعل الكتاب.

منشورات ورقيّة استثنائيّة
وبين الكتب المنشورة التي قد نعتبرها كتباً «رائعة»، قد تستوقفنا خاصة تلك التي تركت آثارها عميقة في عصور قريبة منّا، كتب لامست وجدان أجيال من القرّاء اليقظين، ليس من أجل أصالة نصوصها وعمق معانيها واتّساع معارف أصحابها فحسب، ولكن أيضاً بفضل ميزات بنياتها الماديّة بالغة النّفاسة والثّراء. وقد نشير في هذا الخصوص إلى كتاب سلفادور دالي المعروف «بدالي دراغار» (ودراغار هو اسم ناشر الكتاب) لفائدة دار النّشر «الشّمس السّوداء»، والذي امتاز بمزايا إستيطيقيّة فريدة ومبهرة: ائتلاف حميم بين مكوّنات الكتاب، إيقاع استثنائيّ بن فصوله، تمفصل سلس بين أجزائه، وتقديم معمّق ومدهش بقلم الرسّام ذاته، فجاء هذا الكتاب في تصوّره العامّ كتاباً أصيلاً، مبتكراً وواسع الخيال. 
فحين نمسكه، نشعر مباشرة بوجود علاقة قويّة ووثيقة تجعله أقرب إلى مكوّنات الإنتاج التّشكيلي الشّعريّ المتمرّد على المألوف، على غرار رسوم دالي الإيحائيّة المثيرة للمشاعر، والصّور المستنسخة التي وظّفت في الكتاب بأسلوب خلاّق(...). وقد تمّ إنجاز طباعة الصّور المستنسخة تلك بوساطة حفر تصويري استثنائيّ زاد في أناقة الكتاب، حتى غدت طباعته الماديّة في الأخير خالية من العيوب ومتميّزة بمستوى من الإجادة قلّ وندر أن توفرت لكتب أخرى مماثلة. 
ونستشعر في تلك الإجادة في الحقيقة حالة من التّوافق والانسجام مع الذّات، ولذا فإنّ الكتاب لم يعد لينتمي لغير ذاته. وقد جسّد هذا الكتاب في مجمله، من حيث الشّكل والمحتوى، صيغة متماهية مع المحتوى والعكس بالعكس. بل أكثر من ذلك، إذ قد يكون هذا التّداخل بين الشّكل والمحتوى قد حرّر الكتاب من فكرة وجود محتوى محدود، لأنّ هذا الكتاب أصبح خلاصة عمل حرفيّ جمع بين دفّتيه تقنيّات متنوّعة واختصاصات متباينة.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©