الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: هوشات البيوت

د. عبدالله الغذامي
20 مايو 2023 01:07

يكثر ترداد البيت
ما أرانا نقول إلا معاراً.. أو معاداً من لفظنا مكروراً
وهو لكعب بن زهير «وكثيرون ينسبونه لزهير الأب ولكنها نسبة غير صحيحة»، ويأتي ترداد البيت تحت الزعم أنه يشير إلى الشعراء وتردادهم للكلام لاحقاً عن سابق، وصحة رواية البيت أنه قال «إلا رجيعاً» وليس معاراً، أي ترجيع الكلام، وهو المنازعة بين طرفين، والقصيدة تشير بوضوح إلى مناوشات الكلام بين كعب وزوجته، فهو يقول:
إِنَّ عِرسي قَد آذَنَتني أَخيراً
لَم تُعَرِّج وَلَم تُؤامِر أَميرا
ما صَلاحُ الزَوجَينِ عاشا جَميعاً
بَعدَ أَن يَصرِمَ الكَبيرُ الكَبيرا
فَاِصبِري مِثلَ ما صَبَرتُ فَإِنّي
لا إِخالُ الكَريمَ إِلّا صَبورا
أَيَّ حينٍ وَقَد دَبَبتُ وَدَبَّت
وَلَبِسنا مِن بَعدِ دَهرٍ دُهورا
ما أَرانا نَقولُ إِلّا رَجيعاً
وَمُعاداً مِن قَولِنا مَكرورا
عَذَلَتني فَقُلتُ لا تَعذُليني
قَد أُغادي المُعَذَّل المَخمورا
والقصيدة تصف سيرة ذاتية داخل البيت وتكشف وتفصح عن أحوال البشر مع البشر بعد طول الألفة وشدة التعود حتى ليضيق فضاء النفوس وتحدث المناكفات العائلية، وهو يكاشف زوجته عن ضيقه بهذه المعيشة المتوترة في حين لا يريد المفارقة، فاستعاض عن القطيعة بالقصيدة ونفثها خارج صدره ليحرر ضائقة نفسه، وليخرج وجعه لتحمله القصيدة نيابةً عنه، فهو يمارس علاجاً ذاتياً وجدانياً يشرك همه مع غيره ويترحل هذا الهم ليصل إلينا ونتكلم عنه ونكتب عنه بعد قرون من مولد القصيدة. وقد تعرضت القصيدة للاستلاب فتم سلخ البيت الأهم فيها مع تعديله لينسب للأب أولاً ثم ليجير ضد الشعراء بعامة. وهي حادثة ثقافية قد تبلغ حد المؤامرة الثقافية، فالكل يروي البيت لزهير ويحصر معناه في الشعر والشعراء بوصفهم يرددون القول ويدورون حوله، ويتوارثون القول كتاباً عن كتاب وباحثاً عن باحث واقتباساً عن اقتباس، وهذا النوع من الأحداث يعود لمراد عميق في صناعة معنى محدد يميل له الذوق العام وهو ذوق ثقافي تعم فيه فكرة أن الشعراء أسرق من الصاغة «حسب كلمة الأخطل» واصفاً نفسه وغيره من الشعراء أنهم سراق معانٍ، وهي فكرة تشيع في المدونات وتعززها شواهد لا حصر لها، وقد تم من عهد مبكر تجبير بيت كعب ليكون وصفاً للشعراء، وهو ليس كذلك، وهذا الفعل قتل القصة الأصل وهي أهم من فكرة وصف الشعراء بأنهم سراق المعاني، وأهمية القصة الحقيقية أنها من النوع النادر جداً فيها يتكلم شاعر عربي عن واقع حياته وعن يوميات بيته، وهو حين تكلم نطق بواقعية تصف الحال من جهة وتعرض العيش بسلام تحت مظنة تقبل الآخر بعيوبه، وهو قانون أخلاقي ومعاشي، وكلما تقبل بعضنا بعضاً بما في كل واحد منا من عيوب، فهذا هو الضمان الواقعي لحياة تتوازن حسب شرط الواقع وليس حسب تطلعات الرغبات الذاتية التي قد تكون أنانية تريد كمال الآخر رغم عيوب الذات، وكعب هنا يعترف بأنه معيب مثلها «فاصبري مثل ما صبرتُ» أي أننا معاً نحمل بعض عيوب وبعض حسنات والحل هو كما ورد في بيته:
ما صَلاحُ الزَوجَينِ عاشا جَميعاً
بَعدَ أَن يَصرِمَ الكَبيرُ الكَبيرا
فاصبري مِثلَ ما صَبَرتُ فَإِنّي
لا إِخالُ الكَريمَ إِلّا صَبورا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©