الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

د. عبدالله الغذامي يكتب: أكذب الحديث

د. عبدالله الغذامي
27 مايو 2023 01:08

الظن شعبةٌ من الفكر، وهو يحدث لأسبابه الخاصة التي غالباً لا نعيها إلا بعد مثول الظنون أمامنا، ولكنها ترتبط بما ترسخ في أذهاننا من صور ذهنية تحبسها الذاكرة وبما أنها محبوسةٌ وغير موظفة عملياً، فإنها تظل تبحث لها عن متنفس تتسلل عبره نحو وعينا، ومن طبع المخزونات الذهنية أن تمارس دورها علينا فقد تتحول لأفكارٍ ونظريات وتصورات معرفية أو عملية، ولكن بعضها لا يستطيع ترجمة وجوده إلى أمر فعال ومن ثم إيجابي، وبالتالي يظل في ظلماته ويكتسي صفة الظلام، ولذا يخرج قاتماً وسلبياً ويشكل لنا نظرات تصبغ مادتها بلونها القاتم وتحاصر رؤانا، وهي كثيراً ما تخيب ولكن بعد أن تحدث ضررها علينا وعلى محيطنا، وهي هنا تقوم مقام الخدعة الذاتية التي نمارسها في مخادَعة أنفسنا. وأهم مكوناتها أنها غير برهانية وهي أحد مستويات الوعي وإن بصيغة مقلوبة، وبما أنها غير برهانية، فإنها تتمكن من النفس وستبدو وكأنها حقيقةٌ مطلقة ولا تحتاج لبرهان، أو قد تبدو بأخطر من ذلك إذ قد نتوهم أن حدسنا صادقٌ دون حاجة لبرهنة، وبمجرد نشوء الظنون في النفس فهو يقوم مقام الحدس ويصدق المرء ظنونه، بل يتصرف تبعاً لمقتضاها، لدرجة أن يطرب لها إعجاباً بقدراته الخاصة ومهاراته السرية، مع أن الظن أكذب الحديث كما ورد وصفه في حديث نبوي شريف، والنفس إذا كذَبت صاحبها، فهذا يعطل العقل المتبصر ولا يستبين كذب النفس إلا بعد تجلي أثره واقعياً، فإن لم يأخذ دوره الواقعي فسيظل يعذب الوعي ويغطي على الرؤية بغطاء كثيف ينعكس على البدن وعلى اللغة وعلى العلاقات العامة، وأخطر شيء هو حين يصدق الظن لأن صدقه سيقوي اعتقاد الإنسان أن ظنونه صادقةٌ، وإذا حدث هذا الحس، فستزيد مقامات الظنون وتسيطر أكثر وأكثر على الوعي وعلى الحكم وقد تتحول لحالٍ مرضية تحتاج لعناية علاجية، ولكن الغالب على البشر أن ظنونهم مثلها مثل أفكارهم، كلها منتوج ذهني ينجح أو يخفق حسب مآلاته وحسب نهاياته، ولا يستبين النجاح أو الإخفاق إلا بعد تحقق أحدهما واقعياً، لهذا تختلط شروط النجاح مع شروط الإخفاق وهذا ما نسميه بالتجارب، وفي سيرة كل إنسان سجل حافل من التجارب بين النجاح والإخفاق وهي ما يشكل خلاصة التجارب، ومن اللافت أن أخطاء العظماء تكون بحجم عظمتهم، والتاريخ مكتنز بأخطاء كبرى لأناس كبار، مثل خطأ عباس بن فرناس الذي انتهت فكرته المبتكرة والرائدة لتكون منيته، وهي حادثة تتكرر مع عاشقي الابتكارات ورواد الفكر والعمل، والباعث لها فكرة اختلط فيها الفكر الحر مع الظن الملتبس، وبينهما يأتي الحدث حسب عظمة الفكرة أو فداحة الظن، ومن هذه الأخطاء يتولد صوابُ ما إذا تعلم المرء من أخطاء من سبقوه وتمكن من سد ثغرات التجربة، وبهذا تنمو المعرفة البشرية وتتولد النظريات وتتحقق المخترعات.
وبما أن الظن هو أكذب الحديث، فإنه يظل كاذباً وإن صدق لأن صدقه ليس موضوعياً أي ليس مبنياً على حقيقة أولية ولا على فرضية بحثية، بل هو في أصله مخادعةٌ تطرب لها الذات وتصدقها ابتداءً وإذا صادف وصدق الظن مالت النفس لتزكية ظنونها بحجة أنها صدقت مرةً فيقوم هذا مقام البرهنة المتأخرة عن الحدث، وهي برهنةٌ وهمية وخدعة ذاتية أخرى غرضها تبرير الخدعة الأولية ليس إلا.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©