الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

حسين بن لوتاه.. بدر الشعر

حسين بن لوتاه.. بدر الشعر
25 يوليو 2020 00:09

إبراهيم الملا

الشاعر حسين بن ناصر بن لوتاه «المولود في دبي عام 1885، والمتوفى في رأس الخيمة عام 1948»، يُعدّ أحد الوجوه النيّرة والمضيئة في فضاء الثقافة المحلية التي انتهجت خطّاً شعرياً وتعبيرياً ظل متألقاً لعقود طويلة في ربوع الأرض الممتدة من البحر إلى الصحراء، ومن الجبل إلى حواضر الماء ومديات الرمل، ومن المدن الناشئة والقرى الوادعة، إلى بيوت الطين و«العرشان» الحاضنة للذة الأنس واجتماع الأهل ومنادمة الأصدقاء.

انطلاقاً من نهايات القرن التاسع عشر واقتراباً من أواسط القرن العشرين، خبِر حسين بن ناصر بن لوتاه القيمة الجمالية، والسِمَةَ الاستثنائية للشعر، باعتباره رهاناً وجودياً تكتمل به المدارك الإنسانية، وتتوّج به الحياة المفتوحة على كل الاحتمالات، الحزينة منها والمُبهجة، المُحبطة منها والمُفرحة، مستعيناً بعدّته المعرفية، وعلاقاته الاجتماعية، وملكاته الشخصية، ليصنع الهالة أو الكاريزما المشعّة والجاذبة لكل من عرفه عن قرب، أو عاصره في الأماكن التي ارتحل إليها، وحلّ بها، ولعلّ ما قاله فيه شاعر الإمارات الكبير «راشد الخضر» يمثّل الدليل القاطع، والإحالة المُثلى على هذه القيمة الاعتبارية الثمينة التي اكتسبها حسين بن لوتاه، وهيّأت له المكانة العالية، والوجاهة المرموقة في المجتمع، يقول راشد الخضر:
«أوصل أشراف الحدّ في الحين
وأرجع بطيب النسب بالفوز
أوصل لبوعبدالله حسين
سِيد الخلايج بدر البدور»

 وشاعرنا حسين بن لوتاه، هو أحد أشهر تجار اللؤلؤ أو «الطواويش» الذين ساهموا بقوة في ازدهار صناعة السفن وتفعيل الحركة التجارية بالإمارة، بجانب دوره الثقافي والاجتماعي الحيوي من خلال الاهتمام بفنون الشعر والأدب وتحويل المكان إلى حاضنة للشعراء والمبدعين، والمساهمة كذلك في خلق بيئة محفّزة على إنتاج القصيدة المتميزة وضخّها بالمدهش من التراكيب اللفظية والأغراض الشعرية، وللشاعر حسين بن لوتاه قصيدة مشهورة يذكر فيها المحاسن الجميلة والصفات والبهيّة لمدينة عجمان التي أَلِفَها وأَلِفَتْهُ، وانتقاها وانتقته، وقضى جلّ حياته فيها، قائلاً في هذه القصيدة الماتعة بعنوان: «فضا عيمان» - أي: «فضاء عجمان»-:

«فِضا (عيمان) ذَكّرني بْناسي
وذَكّرْني الهوى ما كنت ناسي
ألا يا الله مِنْ وَقْتِ مِضى لي
بْوادي التيه مِسْتانس بْناسي
غِدا وقت الشراغه يا الحبيب
ودِعْ رَبْك عسى لك يِسْتجيب
يعزّ السوق وِتْعَمْر الغبيب
ويغلي الجَوْ مِنْ نِاعم وراسي»

إلى أن يقول:
«أنا بي حِبّ تِرفات الينوبِ
ولي من هَبّ ذِعْذاع الجنوبِ
سِهَرْت الليل وادعيته طلوبي
وكثر المِطْلِ صَدّعْ لي براسي
هوايه من هوى البيض الصخافِ
على ما با مطيعٍ لي لطافِ
حشى ما بيننا يوقع خلافِ
ولا حَدٍّ على حَدٍّ بجاسي».
ويستخدم ابن لوتاه القافية المتغيّرة في الأشطر الثلاثة الأولى من القصيدة، وفي الشطر الرابع يستخدم القافية الثابتة المكوّنة من حرفي «السين والياء»، ما يدلّ على غزارة مخزونة اللغوي، وقدرته على البناء الجمالي المُتقن لمعمار القصيدة، مانحاً إيّاها الصيغة الديناميكية ذات التشكيل الذهني والبصري المتمازج في قالب متحرك، يعلو ويهبط حسب إيقاع العاطفة الداخلية للشاعر تجاه مدينته الأثيرة: «عجمان»، وتجاه ذكرياته الشفافة والمخترقة لحواجز الزمان، ووحشة النسيان، مستحضراً صورة الحبيب، وأريحية العيش، وهناءة الحال، ورقّة المشاهد المحيطة بهذا الكرنفال العاطفي المجسّد في القصيدة، وسط تدفّق الكلمات الواصفة لتلك المشاهد والذكريات، احتفاءً بالوجد المقيم فيه، والمتجلّي في أبياته الرحبة، والمغسولة بمطر الروح وروافدها العذبة.

أوراق تاريخية

يعتبر كتاب: «أوراق تاريخية من حياة الشاعر حسين بن ناصر آل لوتاه» للدكتورة رفيعة عبيد غباش، الصادر في العام 2008، أحد المصادر المهمة في تتبع السيرة الحياتية والشعرية لواحد من ألمع روّاد ورموز الشعر النبطي بالإمارات، والدكتورة رفيعة غباش هي حفيدة الشاعر حسين بن ناصر، فأمها هي عوشة بنت حسين بن ناصر آل لوتاه، التي كان لها حضور ثقافي متألق، ومشاركة اجتماعية فاعلة بإمارة دبي.
وتسترجع الدكتورة رفيعة غباش في الكتاب صورة البيئة التي عاش فيها الشاعر من خلال المكانة التي احتلتها عائلته في المجتمع، حيث ولد حسين بن لوتاه لأسرة اشتهرت بحراكها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، وترصد بعضاً من صفاته الشخصية من خلال شهادات قدمها عدد ممن عاصروه وعرفوه، ومنهم سمو الشيخ ناصر بن حمد النعيمي، وتذكر المؤلفة أن شاعرنا اشتهر بشجاعته، وكرمه، ومنطقه، ورجاحة عقله، وحديثه العذب.
ويرد في الكتاب أن حسين بن لوتاه بجانب كونه شاعراً متمكنّاً وذائع الصيت، فإنه كان تاجراً وطواشاً وخبيراً بتجارة اللؤلؤ، وفيما يتعلق بمعرفته بأنواع اللؤلؤ، فقد أعطاه الله قدرة وفطرة على التمييز بين أنواعها وقيمتها، بل إنه كان يمتلك القدرة على توقع نوع اللؤلؤ قبل فتح الغشاء المحيط بها، ويذكر عنه أنه كان يضع حبات اللؤلؤ تحت لسانه ليعرف نوعها، ويقدر قيمتها.
 تشير المؤلفة الدكتورة رفيعة غباش إلى أن علاقة شاعرنا المتميزة بالصحراء كانت علاقة تعددية، يمتزج فيها الشاعر بالفارس الشغوف بالخيول والهجن ورياضة الصيد بالصقور، كل تلك الصفات التي تشكل نموذجاً لرجل الصحراء الحقيقي، أما مسابقات الهجن الشهيرة، فهي بحد ذاتها كانت مناسبات لكتابة القصائد والأشعار، ومن أشهر قصص سباقات الهجن، تلك المتعلّقة بالسباق الذي شارك فيه شاعرنا ببعيره المعروف: «صوغان»، وحضر هذا السباق شيوخ المنطقة من دبي إلى الفجيرة، وتحداه البعض بالقول إن بعيره لن يحقق السباق، وانطلقت النوق من سيح «الصجعة» بالشارقة، إلى «الخوانيج» في دبي، وفاز صوغان، فأنشد حسين بن لوتاه قصيدته الشهيرة «صوغان»، ويقول فيها:

«الزين بَش وخاطره طاب
واصْبَحْ مْعيّدْ بين عيدين
عيّد غناتي سيد الاحباب
كنّه من أمهار السلاطين»
إلى أن يقول:
«(صُوغان) حلَّق كنّه عقاب
سَوَّى المدى كلّه رَبِعْتين
يا ما حِثاهن خِفّة اتراب
يعله من المعبود حِرْزين»

ويبرز في هذه القصيدة المناخ الحماسي الذي رافق مشاركة بعيره «صوغان» في سباق الهجن، والفرحة الغامرة لشاعرنا بالفوز، مشبهاً بعيره «بالعقاب» الذي يعدو وكأنه يحلّق فوق منافسيه، ويطوي المدى بخطواته السريعة، وخفّة حركته التي تشبه خفّة التراب، داعياً الله أن يحمي هذا البعير ويحفظه من العين والحسد.
وتؤكد الدكتورة رفيعة غباش أن الشاعر حسين بن لوتاه كان رجلاً محباً لحياة الصحراء وفضائها، ويستمتع برحلات القنص ويحرص عليها، ومما يروى عنه أنه كان يأمر بحفر بئر ماء في كل مكان ينزل به ويقيم فيه، وهذا ما يفسر لنا وجود أكثر من طوي (بئر ماء) يحمل اسم (حسين).

شبيه البدر
يصف الخضر شاعرنا حسين بن لوتاه بأنه شبيه البدر، بل هو «بدر البدور»، ما يدلّ على حيازته لشرف رفيع، وعطاء غير منقطع، وأخلاق كريمة تنشر ضوءها الغامر على المحيطين به، وتُرشد الملتجئين إليه وقت الضيق والكَرْب والحاجة، كتب «راشد الخضر» هذه القصيدة أثناء إقامة حسين بن لوتاه الطويلة في إمارة «عجمان» والتي استقرّت بها أسرة لوتاه في الفترة من 1910 وحتى 1956، وكان لهذه هذه الأسرة الكريمة دور مهم في إثراء النشاط الاقتصادي بالإمارة من خلال الاستثمار في سفن الغوص.

صعوبات وإشكالات
رحل الشاعر حسين بن ناصر بن لوتاه في العام 1948 في مزرعته بمنطقة «الغبّ» برأس الخيمة، بعد إصابته بمرض لم يمهله طويلاً، وبعد أن أحاطت به صعوبات وإشكالات مادية واجتماعية عديدة، ضاعفت من التأثير النفسي السلبي عليه، وراكمت تعبه وسقمه، فتدهور وضعه الصحي أكثر، واستشعر دنوّ أجله، وقال شعراً حزيناً ومؤثراً يصف به حاله ومصابه، يرد فيه:
«مِن كِثِرْ ما بي تَذْرِف العِين
وأرظِف تلايا اللّيل ونّات
حلّ القضا في الزّين والشّين
وتْنَكِّسَتْ روس العلامات
عليك منّي يا أريَش العين
مسموح يا عَذْبِ الثِنيّات».

«بتّ بوزى والقلب ما بات»

لشاعرنا قصيدة اشتهرت بين المتلقين وتناقلها الناس، حملت عنوان: «بتّ بوزى والقلب ما بات»، يقول فيها:

«بتّ بوزى والقلب ما بات
يفكر ومتشّوق لغاليه
مرّن عليه عشر ساعات
أفرش إفراشي ومرّة نطويه
ماتنفع الميْهود ونّات
عزّي لقلب باح قاصيه
أزكر وأنادي بالمُروّات
حاير ولا لي من بشاجيه
الحب له ليعة وغصّات
ولي ما درى به يعله إييه
بي من هوى فَرق الثنيّات
الغرّ لي حلوة معانيه
حلو المعنّق ولقذيلات
وإن ثار يتمشّى دجر فيه
واللّي خلق سبع السماوات
«جِيوَنْ» من «اليَكّه» منقيّه
الزين اللي ما فيه دقّات
محروز مَحْدٍ رِمَس فيه
والعين عين السولعيّات
لي من رِمَس قلبك يسلّيه
ما لي على فرقاه طاقات
يا للأسف كيف الفِكِر فيه
عقب المخوّه والشراغات
قطع الوصل لا يا ولا إنييه
يا بو حسن فات الذي فات
والله مسّوي لي مسوّيه
جانك عليّ هوب شمّات
يوم القيامة كود نتليه 

 هذه القصيدة الغزلية العذبة تعد من روائع شعر حسين بن لوتاه، فهي بقدر ما تتّسِم بساطة في الشكل، بقدر ما تعبّر عن تمنّع في المحتوى، وهي قصيدة تشتمل على أنساق متفاوتة بين الوصف الظاهري والمعنى الباطني، وترتحل مع متلقي القصيدة نحو حالات وتحوّلات غاية في النفاذية والبوح الكاشف عن دواخل الشاعر، ورغباته، وتطلعاته، بدءاً من الحركة الحسية المصاحبة للسهر والتفكّر في المحبوب، وليس انتهاءً بقلق يشوبه توتّر ملحوظ على إثر مرور الزمن «عشر ساعات».

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©