الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الترفيه

ربيّع بن ياقوت.. صانع البهجة

ربيّع بن ياقوت.. صانع البهجة
12 سبتمبر 2020 00:17

إبراهيم الملا

عندما زرت الشاعر ربيع بن ياقوت قبل سنوات أثناء الوعكة التي دهمته وهو طريح الفراش بمستشفى الشيخ خليفة بعجمان، شعرت بهذا القرب أو التآلف الذي يجعل من المرض تعبيراً جوّانياً نقيّاً يتجاوز الكلمات والعبارات المنطوقة، والتي يعد ابن ياقوت من أكثر الشعراء قدرة على تصديرها، وزخرفتها، وتطريزها بالقول البليغ والعبارة الناجزة، أصيب وقتها ابن ياقوت بجلطة حرمته من الحركة الطبيعية، والأقسى من ذلك أنها حرمته النطق، وهو الشاعر الذي اعتاد صنع البهجة بلسانه العذب، ولهجته الفائضة برائحة البحر، ولون السواحل، وحفيف النخيل، وطعم المودّة، تلك المودّة التي اختص بها ابن ياقوت، واستشعرتها بعمق في لمسته الحانية وهو يصافحني، ويشكرني على زيارته، رغم التباس حالته، وتزاحم المحنة التي ألمّت به، وسرقت منه عافية الجسد، لكنّها لم تسلب حيوية روحه، ولم تُصِب جماله الداخليّ بالعطب والخفوت والانطفاء. ومع زيارة أخرى لاحقة له في منزله بعجمان، رأيت في نظراته ترجماناً واضحاً لما يعتمل في قلبه من عواطف جيّاشة، وما يتوافد على ذهنه من أفكار تلتمع في عتمة الصمت، كان يسمع لما نقول، ويستوعب ما يدور من أحاديث، كانت كلها تحتفي بعودته لمنزله واجتماعه مرة أخرى بعائلته، كان ابن ياقوت واعياً لهذه الإشكالية المانعة لتواصله الكلاميّ مع الآخرين، ولكنه استعان بصبره الكبير على مرضه، وكان مصرّاً على التكيّف مع وضعه الجديد، والتماهي مع الحياة المختلفة، فعرفنا وتيقّنا أن «ترياق الشعر» كان له دور ملحوظ في مقاومته لليأس الضاري، وتجاوزه للألم المتجذّر في حواسه قبل جسده.
فبين مدّ وجزر، وبين استقرار في عجمان ورحيل إلى الكويت، استطاع ابن ياقوت أن يخلق الصيغة المتوازنة لحياته قبل قيام دولة الاتحاد، حيث كانت الهجرة للبلدان الخليجية المجاورة من أجل كسب الرزق، هي القفزة النوعية والكبرى في مسار مجتمع كامل ألِف حياة الغوص، واندمج مع إيقاع الأزرق الكبير، ثم انتقل فجأة لحياة مختلفة، تطلّبت عدّة كافية من حسّ المغامرة والجسارة والخوض في أرض غريبة، دونها الكثير من الصدمات والمفاجآت والحنين الذي لا يملك سوى تفسير واحد، وهو الرغبة الجارفة للعودة إلى مسقط الرأس وإلى منبع الذكريات، وقد كان هذا الحنين، هو الشرارة المحفّزة لوهج الإبداع الشعري عند ربيّع بن ياقوت، عندما كان يتنقّل من مهنة إلى أخرى في الكويت وقلبه معلّق بشواطئ وحواري وبيوتات عجمان، ولذلك أتت قصيدته الأولى على النحو التالي:

«هات القلم، قم هات لسجال
 بندب لهم في الليل مرسول
ضاق الصدر م الضيج ما شال
 م الهمّ أنا ناقل حِمِلْ تُول
وانت مريح وخالي البال
 وأنا عليّه اليوم عن حول
ما بك شرا ما بي م الاهوال
 يا عاذلي لا تكثر القول»

جاءت هذه الإشراقة الشعرية المبكرة لدى ابن ياقوت، لتفتح باباً مُشرعاً على إبداع مكتنز، ظلّ حبيساً في صدر الشاعر ولسنوات طويلة، قبل أن يندلع هكذا: مفاجئاً ومدويّاً ومعبّراً عن صنوف البوح والتباريح واللواعج التي فجّرتها الغربة دفعة واحدة، وصنعت له اسماً شعرياً لافتاً ظل يُبرِقُ ويُسْحِرُ ويتصاعد، حتى صار ابن ياقوت عند عودته للإمارات وبعد ثلاثين عاماً قضاها في الكويت، رمزاً وعلامة لهوية الشعر الشعبي في الإمارات، مستفيداً من تنوّع التجارب التي عاشها، والخبرات التي اكتسبها، والقصائد والحكايات والقصص التي استمع لها وهو مشتبك مع الأفراح والأهوال معاً، أثناء عمله وهو صغير على ظهر سفن الغوص، فكل هذه الأجواء والمناخات والتحولات روت بذرة الإبداع فيه، وأهلّته لاحقاً للتحدّي الشعري ومجالسة كبار الشعراء في الإمارات، والتنافس معهم في البرامج التلفزيونية والإذاعية، ذات الشهرة والصيت والتواجد الفعّال في الوسط الاجتماعي المحلي، منذ سبعينيات القرن الماضي.
ولد ربيّع بن ياقوت بعجمان في عام 1930، واكتسب ما تيسّر من علم في المدارس الفطرية ذات المحتوى المعرفي البسيط في مناطق الدولة المختلفة حينها، والتي كان يطلق عليها اسم: «الكتاتيب»، التحق بعدها للعمل بمهنة «الوليد» على ظهر سفن الغوص، وقد تأثر في بداياته بشاعرين مهمّين في تلك الفترة وهما: راشد بن صفوان، وراشد بن ثاني، وعند بلوغه العشرين، كانت صحبته لعدد من الشعراء المعروفين في عجمان سبباً في انتقال عدوى الشعر إليه، وتميّزه بعد ذلك بأسلوب خاص اختطّه لنفسه، ونسق شعري تفرّد به، ومن هؤلاء الشعراء الذين رافقهم: راشد الخضر، وحمد بوشهاب، وماجد علي النعيمي، وعبدالله بن ذيبان، والكوس، والجمري، وراشد بن طنّاف، وكان حمد بوشهاب قد وثّق تجربة ومسيرة الشاعر ربيّع بن ياقوت، ضمن جهوده البحثية المقدّرة التي حفظت لنا الإرث الإبداعي لكثير من شعراء وشاعرات النبط في الدولة، وأطلق بوشهاب على بن ياقوت لقب «فاكهة البيان» عند تصديره لقصائده في صفحة الشعر الشعبي، والتي كان بوشهاب يُشرف عليها وينسّق موادها.
ظلّ الهوى الفنّي ملازماً لابن ياقوت عند عودته للإمارات، حيث التحق بالمسرح، وكانت له مشاركات في حقل التمثيل على الخشبة، مستفيداً في ذلك من صحبته للممثل المعروف سلطان الشاعر، ومستثمراً حساسيته الإبداعية لطرق أبواب تعبيرية متنوعة، كان الشعر في مقدمتها، فهو المفتاح الذهبي للولوج إلى مساحات فنية جديدة يمتزج فيها القول بالأداء، ويتداخل فيها المعنى الافتراضي بالتجسيد العملي، فأصبح ابن ياقوت ممثلاً مسرحياً، وشارك في ثلاث مسرحيات، في أدوار يغلب عليها الطابع الكوميدي، وكان من ضمن المجموعة الشاعر حمد خليفة بوشهاب، الذي كان يؤلف تلك المسرحيات، ثم ترك ابن ياقوت التمثيل، واتجه إلى احتراف الشعر.
ساهم ابن ياقوت أيضاً في حفظ التراث المحلي، وصون الفلكلور الشعبي، بعد عمله في جمعية عجمان للفنون الشعبية، مقدماً خبرته في هذا المجال لتأهيل جيل جديد من الشباب للتواصل مع الفنون الأدائية المحلية المختلفة والإبقاء عليها، بعد غياب وانسحاب الجيل المؤسس لهذه الفنون من كبار السن، خوفاً على هذه الفنون التراثية الأصيلة من التلاشي والاندثار.
امتاز شعر ابن ياقوت بأسلوب جاذب للمستمع، لأنه شعر ينطوي على جانب ديناميكي يتحرك في أفق مشهدي قريب من الأذهان، ويمسّ قضايا ملموسة محلياً وعربياً، وبالتالي تخاطب قصائده الوعي الجمعي المتفاعل مع هذه القضايا والأحداث، مستخدماً المفردات اليومية المتداولة في تكوين الصورة الشعرية، بعيداً عن المعاني المبهمة، والصياغة الملغزة، وقد وصف الشاعر والفنان المسرحي «مرعي الحليان»، هذه الخصوصية الشعرية بدقّة، وقارنها بأسلوب الشاعر الكبير راشد الخضر، قائلاً: «كان الشاعر راشد الخضر، محيراً في شيطنته وتلاعبه بدلالات المفردة العامية، وفاق كثيراً من مجايليه في تفانين الشعر، كان موارياً قوياً، مثلما كان مطابقاً وساجعاً، ولا أعتقد أن ربيع بن ياقوت قد جرّ على نفس القوس من الربابة نفسها، فالآخر الخضر كان «داهية» في شيطناته الشعرية، لكن ابن ياقوت كان فريداً في علاجاته الشعرية أيضاً، حتى وإن أبحر في الغزل وعزف نوال العشق، ففي سياقاته ومواضيعه، في أفكار قصائده التي لم تبتعد عن مشهد الحي والشارع، راقب ياقوت التطور وانقلابات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، راقب سلوك الأفراد وسلوك المجتمع، ركز كثيراً على تحويل القصيدة إلى عريضة احتجاج، في الوقت الذي تسجل فيه تقلبات وأحداثاً دراماتيكية في الجانبين الاجتماعي والاقتصادي».
إن المقارنة التي يعقدها الحليان هنا، تبيّن مدى استقلالية شعراء الجيل الذهبي في الإمارات، وقبضهم على الجمرة النادرة لخصوصيتهم الشعرية، وكذلك كان ابن ياقوت مرتبطاً بالقصيدة ذات الطابع الفكاهي المتجه نحو مسارب ضمنية مختلفة، مثل النقد والمجابهة والوقفة الحادة أمام ظواهر اجتماعية، يرى فيها ابن ياقوت خللاً أو إشكالاً بحاجة لمراجعة ومعالجة وتصويب، ومن قصائده المعروفة في هذا السياق، تلك التي يقول فيها:

«علّموها الرقص والغنّا /‏‏ خرّجوها البنت فنّانه
درّبوها كيف تتجنّا /‏‏ تلعب الجمباز شيطانه
وفّروا لها العود والغنّا /‏‏ وهي مثل الأرض عطشانه
والولد قاصر من الحنّا /‏‏ إيعجن وإيخضّب ابنانه
هايم بالخمر مدمنّا /‏‏ نايم والبُطُلْ في احضانه
هوب هذا ريب أو ظنّا /‏‏ شيٍ يشاهد بالأعيانه»

ينقل ابن ياقوت في هذه القصيدة المتراوحة بين الهجاء والسخرية، ما تشاهده عيناه من تفلّت في تصرفات الجيل الجديد، ويعبّر عن استيائه تجاه هذه الظواهر السلبية، منتقداً لها بقوة وبشكل لاذع، ومن دون مواربة، أو إسقاط، أو تلميح، إنه هنا واضح ومباشر لأنه يرى في الشعر جانباً تصحيحياً لمشاكل المجتمع، وأن هذه إحدى مهامه اللازمة، بعيداً عن الأغراض الأخرى التي تخاطب الوجدان والعواطف، وتثير الأشجان مثل قصائد الغزل والنسيب، التي تظل حاضرة ومتألقة في شعر ابن ياقوت، ولكن تبقى بالنسبة له قصائد محتمية بمنطقها المحايد والشخصي، بينما القضايا العامة بحاجة لشعر أكثر حدّة وواقعية وجرأة، حتى لو كان تمرير هذه الرسائل النقدية القوية منضوية تحت غلالة شفافة من الشعر الفكاهي، والنظم العفوي القريب من نبض الشارع وفهم الناس وتفاعل المجتمع.

محبة مضاعفة
أحب ربيّع بن ياقوت الحياة، وتفاعل مع تحولاتها، وعبّر عنها بصدق ورهافة وتواصل عميق، ضمن قصائده المقيمة بذاكرتنا المحليّة، وذائقتنا الجمعية، فوهبته الحياة محبة مضاعفة، وكانت هذه المحبة، وما زالت هي العائد المعنوي الذي لا ينضب، والرصيد الداعم لتفاؤله الدائم، ولابتسامته الحاضرة إلى اليوم، لم يغادر ابن ياقوت طفولة السواحل التي أورثته موسيقا الشعر، وبحور القصائد، وترانيم القوافي، ودفق الأوزان، ولم يفتّ في عضده الغياب المرّ عن الساحة الشعرية، فقلبه النابض بالقصيدة الولهى، وبالدهشة القصوى، هو القلب المانح دوماً، والمؤتلف أبداً مع الرقّة، والدماثة، وطيب المعشر.
ومن قصائد ربيّع بن ياقوت:
مشتاق انا للبحر /‏‏ مشتاق للسيفه
مشتاق انا للبحر /‏‏ أنظر عواصيفه
جرح الهوى في الحشا /‏‏ صعبه تكاليفه
جرح الهوى ما برى /‏‏ وجروحه مخيفه
نشوة عمر وانقضت /‏‏ وحلمٍ قضى طيفه
مشتاق انا للبحر /‏‏ مشتاق للسيفه».

دواوين
للشاعر ربيّع بن ياقوت عدّة دواوين شعرية، ومن أهمها ديوان «حصاد العمر» الصادر في العام 2009، بناء على توجيهات صاحب السمو الشيخ حميد بن راشد النعيمي - عضو المجلس الأعلى حاكم عجمان، وصدر الديوان عن مركز الشارقة للشعر الشعبي، بالتعاون مع نادي عجمان الثقافي، وهو من إشراف الشاعر راشد شرار، وجمع وإعداد كل من: عبيد بن طروق النعيمي، ومحمد البريكي، وسعود الدوسري، ومريم النقبي، ومحمد عبدالسميع، ويقع الديوان في 282 صفحة من القطع الكبير، وتتصدّره كلمة النادي الوطني للثقافة والفنون بعجمان، وكلمة للشاعر راشد شرار، ثم نبذة عن حياة الشاعر ربيع بن ياقوت، ويكشف الديوان عن مواطن الجمال في تجربة شعرية فخمة، لواحد من كبار الشعراء الإماراتيين، عرف بخوضه مجالات شعرية متنوعة، منها الشعر الخاص بالمديح، والوطن، والمناسبات، والغزل، وشعر المحاورات، والشعر الاجتماعي، والرثاء، وذلك من خلال تصاوير فنية ماتعة، ومعانٍ وصور معبرة، وذات جرْس إيقاعي حافل بجماليات اللهجة المحلية في الإمارات.

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©