الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
الأخبار العالمية

منطقة الساحل .. التحديات الأمنية والرهانات التنموية

منطقة الساحل .. التحديات الأمنية والرهانات التنموية
30 مايو 2023 01:59

محمد المنى (أبوظبي)

تُواصل منطقةُ الساحل الأفريقي جنوب الصحراء معركتَها في مواجهة التحديات الأمنية، وعلى رأسها الإرهاب والجماعات الإرهابية العابرة للحدود، حفاظاً على كيانات الدول والمجتمعات، وسعياً إلى كسب رهانات التقدم والرفاه والازدهار، في ظل سياقات أمنية واقتصادية واجتماعية وبيئية غير مواتية. وقد تصاعد منحنى النشاط العنفي للجماعات الإرهابية في منطقة الساحل خلال السنوات الأخيرة، ووصل ذروتَه في العام الماضي، سواء من حيث عدد العمليات والضحايا أو من حيث اتساع المساحة الجغرافية لنشاطه، وهو اتجاه من شأنه تعميق المشكلات الهيكلية، الاقتصادية والاجتماعية والأمنية والبيئية، في منطقة تعاني الهشاشةَ الاقتصاديةَ وغيابَ الحكامة، علاوةً على التوترات الفئوية (العرقية والدينية) ومخاطر التدهور البيئي وتداعياته. وقد تزايد التهديد الإرهابي في المنطقة ليفاقم هذه التحديات ودورَها في إضعاف أداء الحكومات إزاء التهديد الذي تمثله الجماعات الإرهابية على حاضر الدول ومستقبلها.
 ولعل خبرةَ أعوام من مواجهة الجماعات الإرهابية رسخت القناعةَ أخيراً لدى مراكز صناعة القرار في دول المنطقة بأن كسب هذه المواجهة يمر حتماً بكسب الرهانات التنموية، أي بالعمل على تقليص الفقر والبطالة وتوسيع البنى التحتية وتطوير الخدمات وتحسين نوعية الحياة وتعميق الاندماج الاجتماعي وتقوية الترابط الوطني، وإلا فإن الحرب ضد الإرهاب ستظل مجرد مناوشات أمنية وعسكرية، أو بالأحرى معارك كر وفر قد لا تنتهي في المديين القريب والمتوسط. 
 وعلى ضوء هذه القناعة بدأ الخبراءُ ينصحون بوضع مقاربات أكثر شمولاً في مواجهة التطرف والإرهاب، وبتنا نطالع ضمن أجندات قادة الدول والحكومات في المنطقة قضايا التنمية اللامركزية، وتمكين المجتمعات المحلية، وتضييق الفجوة بين الدولة ومجتمعات المناطق الطرفية.. وهي قضايا ومستهدفات تتطلب اعتمادَ سياسات فعالة للتعاون الجماعي والتكامل الإقليمي بين دول الإقليم، وهذا ما تجلى في إنشاء «مجموعة دول الساحل الخمس» كإطار جماعي لمواجهة التحديات الأمنية ولكسب الرهانات التنموية في المنطقة. 
لكن إلى أي حد أصبح الإرهاب بالفعل تهديداً وجودياً لدول الساحل الأفريقي؟ وهل أصابها جميعاً بالدرجة نفسها وعلى المستوى نفسه؟ وما المصادر التي يستمد منها الإرهابُ أسبابَ بقائه ونموه في منطقة الساحل؟ وكيف استجابت دولُ المنطقة لمخاطر التحدي الإرهابي؟ وهل استطاعت الانتقالَ بأوضاعها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية نحو مرحلة أكثر تطوراً ومتانةً وتماسكاً، لتحصين جبهتها الداخلية في مواجهة الجماعات الإرهابية؟ 

عُرفت منطقة الساحل الأفريقي في الأدبيات التاريخية العربية بوصفها حزامَ التماس بين الشمال الأفريقي وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى. وهي من منظور الجغرافيا المعاصرة تمثل شريطاً جغرافياً ممتداً من البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي بمحاذاة الصحراء. لكن تسمية «الساحل الأفريقي» كمصطلح جيوسياسي حديث تشير في المجال التداولي الراهن إلى نطاق أضيقَ من التعريفات الجغرافية آنفة الذكر، إذ يقتصر على منطقة تشمل خمس دول في غرب القارة الأفريقية، هي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا.. وكلها تقع في الحزام الصحراوي، وتعد بلداناً حبيسة لا تتوافر على إطلالات بحرية، باستثناء موريتانيا المطلة على المحيط الأطلسي. كما ورثت جميعاً حدودَها ونُظمَها السياسية والاقتصادية والإدارية من المستعمر الفرنسي، علاوةً على كونها تتشابه في أوضاعها التنموية الهشة وبنياتها الاجتماعية الفسيفسائية، إلى جانب التصحر الذي يغلب على أراضيها ويشكل تحدياً مشتركاً لها جميعاً. كما عانت جميعُها من قلاقل داخلية وانقلابات عسكرية متتالية. ولا حاجة للقول إن مثل هذه الأوضاع والظروف تمثل شروطاً مواتيةً لظهور الجماعات الإرهابية وانتشارها. 
ورغم ذلك تعد منطقةُ الساحل الأفريقي غنيةً بثرواتها البشرية والطبيعية، إذ يبلغ عدد سكانها نحو 90 مليون نسمة نصفهم تحت سن الـ15. أما أراضيها الممتدة على مساحة تصل خمسة ملايين كيلو متر مربع، فغنيةً بالثروات المادية، خاصة الزراعة والمعادن والماء والطاقة.. ما يجعلها منطقةً تتمتع بالكثير من مقومات النهوض والتطور، الأمر الذي يمنحها أهميةً جيوستراتيجيةً وَيشدُّ إليها أنظارَ القوى الدولية الكبرى المتطلعة إلى الأسواق والمواد الأولية وإلى الممرات البرية والجوية والبحرية بين منطقة شمال أفريقيا ومناطق أفريقيا جنوب الصحراء. 
ورغم ما تتمتع به منطقة الساحل من مميزات وخصائص، فهي تتصف بتعقد أوضاعها وتداخل مشكلاتها، مثل الاضطراب السياسي المزمن، والتهديد الإرهابي العابر للحدود، وشبكات الاتجار بالمخدرات وتهريبها، وتيارات الهجرة غير الشرعية، وانتشار البطالة والفقر، والتغير المناخي وتداعياته.. وكلها تحديات يغذي بعضُها البعضَ الآخرَ ويستمد منه قوةَ استمراره وبقائه على قيد الحياة. وفي الوقت نفسه، نجد أن الموقعَ الجغرافيَّ للمنطقة وثرواتِها البشرية والطبيعية.. أسبابٌ تجعلها محطَّ أنظار العالَم كله تقريباً، بما فيه «الفاعلون من غير الدول» مثل جماعات الإرهاب والجريمة المنظمة.

الإرهاب.. مجدداً
تواصلت ظاهرة الإرهاب، بأنشطتها التخريبية العنيفة في منطقة الساحل على مدى السنوات الثماني الماضية، بعد تراجع لم يدم أكثر من سنتين، ويُعزى أساساً للعملية العسكرية الفرنسية في مالي عام 2013 والتي وجَّهت ضربةً قاسيةً للجماعات الإرهابية في إقليم أزواد المالي، وأفقدتها مناطقَ سيطرتها، بما في ذلك مدن الإقليم التي استولت عليها هذه الجماعات في العام السابق. وبسبب التراجع والتقهقر اللذين أصابا الجمعات الإرهابية، فقد تحلل بعضُها أو تلاشى، واندمج بعضٌ منها في بعض آخر، كما غيَّر بعضُها أسماءَه.. وفي المحصلة فقد تقلصت الهجمات الإرهابية في المنطقة على نحو ملحوظ خلال الفترة بين عامي 2013 و2015، حين استعادت القوات المالية، بدعم فرنسي وأفريقي، سيطرتَها على معظم أنحاء أزواد. بيد أن الجماعات الإرهابية استأنفت أنشطتَها العنيفة بداية من عام 2015 وأخذت هجماتُها مساراً تصاعدياً وسجلت الوفيات الناتجة عنها زيادةً كبيرةً في عام 2017، كما لاحظ التقرير السنوي المتخصص «مؤشر الإرهاب العالمي»، الصادر عن «معهد الاقتصاد والسلام» في سيدني بأستراليا، والذي اعتبر في نسخته لعام 2018 أن مالي شهدت أكثر أعوامها دمويةً حتى ذلك الوقت، بعدد قتلى بلغ 141 قتيلاً في 77 عملية إرهابية، كان الجزء الأعظم منها على يد «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين». وواصل منحنى أعداد قتلى العمليات الإرهابية في المنطقة تَزايُدَه ليصبح في عام 2021 ضعفَ ما كان عليه في عام 2007 عشر مرات، وذلك وفقاً لـ«مؤشر الإرهاب العالمي» الصادر عام 2022، والذي بيّن أن نصيبَ المنطقة من العمليات الإرهابية على مستوى العالَم ارتفع خلال الفترة ذاتها من 1% إلى 22%، في اتجاه معاكس لمنحنى الأنشطة الإرهابية المتراجع عالمياً. وقد ذكر التقرير أن أكثر 20 هجوماً إرهابياً دموياً في العالَم خلال عام 2021 وقع نصفها في منطقة الساحل. كما أدرج ثلاث دول من المنطقة ضمن قائمة من عشرة بلدان شهدت (85%)، من الوفيات في العالم بسبب الإرهاب خلال عام 2021، هي بوركينا فاسو التي حلّت في المركز الثاني ضمن القائمة بنسبة (10%)، ومالي في المركز الرابع (8%)، تليها النيجر (8%)، أيضاً، حيث كان نصيب المنطقة 26%)، من إجمالي قتلى الإرهاب على مستوى العالم في ذلك العام. وتواصل الاتجاه التصاعدي في عام 2022، حيث نجد في «مؤشر الإرهاب العالمي» الصادر عام 2023 أن أكبر عشرين عملية إرهابية وقعت العام الماضي كانت منها تسعة في منطقة الساحل بواقع أربع عمليات في مالي وخمس في بوركينا فاسو. ومرة أخرى ضمت قائمةُ عشر بلدان شهدت 85% من الوفيات الناتجة عن الإرهاب على مستوى العالم ثلاثاً من دول الساحل: بوركينافاسو (14%)، مالي (14%)، والنيجر (3%)، أي ما مجموعه (34%)، من إجمالي عدد الوفيات الناجمة عن الإرهاب عام 2022. ويمكننا فهم تزايد العمليات الإرهابية وضحاياها في منطقة الساحل على ضوء التقديرات التي أوردها «مؤشر الإرهاب العالمي» في نسخته الأخيرة، والتي ترى أن المنطقة باتت تحتضن ما يناهز 50% من النشاط الإرهابي على مستوى العالم، وأن أربع دول فقط في العالم سجلت زيادةً في أعداد الوفيات الناجمة عن الإرهاب، اثنتان منها في منطقة الساحل، هما مالي وبوركينا فاسو. وبطبيعة الحال، فإن دول الساحل الخمس متفاوتة في درجة تعرضها للإرهاب وأنشطة الجماعات الإرهابية، وهو ما لاحظه مؤشر الإرهاب العالمي في نسخته لعام 2020 وكرره في نسختيه اللاحقتين، حيث نجد أن موريتانيا أقل دول المنطقة تعرضاً للإرهاب وتضرراً منه، إذ تعود آخر عملية إرهابية استهدفتها إلى عام 2011، لذا فالتقريرُ يعتبرها أكثرَ دول الساحل الأفريقي استقراراً ويضَعها في المرتبة الـ135 عالمياً (بدرجة صفر)، أي في فئة الدول الخالية من الإرهاب. تليها تشاد في المرتبة الثانية على مستوى الساحل والـ34 عالمياً (بدرجة 4.8)، أي ضمن فئة الدول منخفضة التأثُّر بالإرهاب. والواقع أن تشاد التي تعرضت لهجمات محدودة من جماعة «بوكو حرام» الإرهابية الناشطة في شمال شرق نيجيريا، تخوض الحربَ ضد حركات معارضة مسلحة، وتشارك بفاعلية في محاربة الإرهاب على التراب المالي ضمن «القوة المشتركة». أما النيجر، فاحتلت المرتبة الثالثة على مستوى الساحل والـ24 عالمياً (بدرجة 5.6)، وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي الذي أدرجها في فئة الدول متوسطة التأثُّر بالإرهاب. ويذكر التقرير في نسخته لعام 2022 أن النيجر شهدت في عام 2021 وقوع 588 حالة وفاة بسبب الإرهاب، ما يمثل زيادة بنسبة الضعف مقارنةً بعام 2020، وذلك على أيدي جماعات مسلحة في مناطق تيلابيري في الجنوب الغربي للبلاد، وتاهوا في جنوبها، وديفا في جنوبها الشرقي، ومارادي بجنوبها. غير أن معظم الهجمات والوفيات كانت في منطقة تيلابيري المضطربة ضمن المثلث الحدودي المشترك مع كل من مالي وبوركينافاسو، وهو المنطقة الأكثر تضرراً بالهجمات الإرهابية في منطقة الساحل. لقد تصدَّرت النيجر ومالي وبوركينافاسو قائمةَ أعلى الدول الأفريقية من حيث إجمالي عدد الوفيات جراء الإرهاب خلال عام 2021، لكن نسبة 73% من إجمالي العمليات الإرهابية على مستوى منطقة الساحل خلال عام 2022 وقعت في بوركينا فاسو ومالي وحدهما، مما يشير إلى تصاعد النشاط الإرهابي، وهشاشة الأوضاع الأمنية في كلتا الدولتين.
قتلى ونازحون
أدت أعمال العنف والإرهاب في بوركينا فاسو إلى مقتل أكثر من 10 آلاف شخص خلال السنوات السبع الماضية، بين مدنيين وعسكريين، وإلى نزوح أزيد من مليوني شخص عن مناطقهم، وفقاً لمنظمات غير حكومية. وقد زادت الجماعات الإرهابية من وتيرة هجماتها خلال الأشهر الأخيرة، وكانت أكثر عملياتها دمويةً في شهر أبريل الماضي، ففي يوم السادس منه شنت جماعة متشددة هجومين على قريتي كوراكو وتوندوبي في شمال البلاد، مما تسبب في مقتل 44 مدنياً، وفقاً لبيان رسمي لم يحدد هوية الجماعة المهاجمة. 
وفي الشمال أيضاً تسبب هجوم إرهابي نفذه مجهولون ضد معسكر بالقرب من قرية أوريما، يوم الخامس عشر من الشهر نفسه، في مقتل 40 وإصابة 33 من قوات الجيش وقوات الدفاع المتطوعة معها. 
وشن مجهولون هجوماً دموياً، يوم الـ21 من أبريل، ضد قرية كارما في الشمال، مودين بحياة 60 مدنياً بينهم نساء وأطفال، كما أفاد بيان بوركينابي رسمي. 
وفي يوم 28 أبريل أعلن الجيش البوركينابي أن 33 من جنوده قتلوا في هجوم نفذته مجموعة إرهابية ضد موقع عسكري في منطقة أوجارو بشرق البلاد، على الحدود مع النيجر.
 ويتضح من تتبع أعمال العنف المسلح في بوركينا فاسو أن تزايد النشاط الإرهابي للجماعات المتطرفة جاء على شكل طفرة جعلت هذا البلد أكثر بلدان المنطقة اضطراباً وانكشافاً أمنياً، إذ سجل أكبر تدهور على مؤشر السلام العالمي لعام 2021 بانخفاض (13) مركزاً عن 2020، كما احتل مركزاً متقدماً في تقرير مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2022، حيث جاء في المركز الرابع عالمياً في قائمة الدول الأشد تأثراً بالإرهاب خلال عام 2021، بعد كل من أفغانستان والعراق والصومال. وازداد عد الحوادث الإرهابية في بوركينافاسو بين عامي 2020 و2021 من 191 إلى 216 حادثة، أي بارتفاع نسبته 11%. وفي عام 2021 نفسه، سجلت بوركينا فاسو ثاني أكبر عدد من الوفيات الناجمة عن الإرهاب في أفريقيا بعد الصومال، ومثّل المدنيون نسبةَ 65% من ضحايا العمليات الإرهابية فيها. 
وتواصلت الزيادة في عدد الوفيات الناجمة عن الإرهاب في بوكينا فاسو، حيث ارتفعت من 759 خلال عام 2021 إلى 1135 في عام 2022، أي بزيادة نسبتها 49.5% خلال عام واحد، وفقاً لمؤشر الإرهاب العالمي لعام 2023. وتعد زيادة النشاط الإرهابي في بوركينا فاسو جزءاً من زيادةٍ أكبر في معظم أنحاء منطقة الساحل الأفريقي، وعلى الخصوص في جارتها مالي التي شهدت طفرة مماثلة في الأعمال الإرهابية خلال السنوات القليلة الماضية.
مسرح العمليات الرئيسي
ما فتئت مالي بمثابة المنطلق والمسرح الرئيسي لأنشطة الجماعات الإرهابية في المنطقة، وقد احتلت المرتبةَ السابعة في قائمة الدول الأكثر تأثراً بالإرهاب عالمياً خلال عام 2021، حيث ازداد عدد الهجمات الإرهابية فيها بنسبة 56%، وكذا الوفيات الناجمة عن الإرهاب بنسبة 46%، مقارنةً بعام 2020، وفقاً لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي الصادر عام 2022. أما مؤشر الإرهاب الصادر عام 2023 فوضَعَها في المرتبة الرابعة بعد كل من أفغانستان وبوركينا فاسو والصومال.
وصعّدت الجماعات الإرهابية عملياتِها في مالي خلال الأشهر الأخيرة، ما دفع رئيسَ بعثة الأمم المتحدة في باماكو، القاسم وان، إلى القول أمام مجلس الأمن في 12 أبريل، إن استمرار أعمال العنف يخلّف عواقبَ مدمرةً على المدنيين. وفي اليوم نفسه، تعرضت مدينة «ميناكا» في الشمال الشرقي، لهجوم إرهابي مفاجئ، وكانت على وشك السقوط بأيدي مسلحي «داعش». 
 وفي 18 من الشهر نفسه، نفَّذت «جماعةُ نصرة الإسلام والمسلمين» هجوماً في غرب البلاد، ضد قافلة عسكرية، أسفر عن مقتل أربعة عسكريين بينهم مدير مكتب رئيس اللجنة العسكرية الحاكمة الكولونيل أسيمي غويتا.
وفي اليوم التالي، شن مسلحو الجماعة ذاتها هجوماً آخر ضد أهداف مدنية وعسكرية بين بلدتي سوكولو وفارابوغو بوسط البلاد. 
وفي منطقة موبتي بالوسط، تعرضت بلدة سيفاري صباح 22 أبريل لهجوم مزدوج شنه مسلحو «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين»، أسفر عن مقتل 19 مدنياً و3 عسكريين، وفقاً لبيان رسمي. 
وفي اليوم ذاته، وعلى الطريق بين موردية ونارا، «تعرضت مهمة إمداد للقوات المسلحة المالية لكمين»، وفقاً لبيان رسمي. 
وهذا التزايد الملحوظ في وتيرة العمليات الإرهابية في مالي هو ما تناوله «المؤشر العالمي للإرهاب» في نسخته لعام 2023، والتي يذكر فيها أن مالي سجلت خلال عام 2022 أكبر عدد سنوي من الوفيات بسبب الإرهاب على مدى العقد الماضي كله.
معارضون وتجار مخدرات
لا تقتصر التهديدات الأمنية في منطقة الساحل على الجماعات الإرهابية المتطرفة فحسب، بل ثمة أيضاً الميليشيات القبلية العرقية التي تحمل السلاحَ في مواجهة الدولة، وفي مواجهة بعضها البعض، حيث نجد في مالي أن بعض العرقيات مثل السونغاي وماسينا والفلان.. لها ميليشياتها المسلحة الخاصة، وأنها ارتكبت مذابح ضد بعضها بعضاً في السنوات الأخيرة، خاصة ميليشيا «جبهة تحرير ماسينا».
 كما توجد قوى معارضة مسلحة ذات مطالب سياسية كما في تشاد التي يخوض جيشُها حرباً طويلة ضد قوى مسلحة على رأسها «جبهة الوفاق من أجل التغيير». 
 وهناك قوى أخرى ذات مطالب قومية انفصالية مثل الفصائل المسلحة للطوارق في كل من مالي والنيجر. ولئن كانت الأخيرة قد أبرمت اتفاقَ مصالحة مع الانفصاليين من طوارقها وأدمجتهم في أجهزة الدولة، فإن مفاوضات الحكومات المالية و«الحركة الوطنية لتحرير أزواد» ما تزال متعثرة. 
وتمثل شبكات المخدرات تهديداً أمنياً آخر لدول منطقة الساحل التي تحولت في الأعوام الأخيرة إلى أحد أهم معابر المخدرات في العالم، خاصة في ظل التضييق المتزايد على كرتلات المخدرات في أميركا الجنوبية، والذي قلّص إمكانيةَ وصولها إلى أسواق الولايات المتحدة الأميركية، ما جعل المهربين يتحولون نحو أوروبا وآسيا كسوقين جديدين، حيث وجدوا في منطقة الساحل بيئة هي الأكثر تساهلاً مع أنشطة النقل والتهريب. وتَنقل وسائلُ إعلام عن تقارير أمنية غربية اعتقادَها بأنه خلال المرحلة بين عامي 2006 و2011 عبرت من منطقة الساحل الأفريقي نسبةُ 93% من الكوكايين القادم من بوليفيا وكولومبيا والبيرو إلى أوروبا، وهي الفترة التي كان خلالها تنظيم «القاعدة» مسيطراً على شريط طويل يمتد من شمال النيجر مروراً بشمال مالي وصولاً إلى الضفة الموريتانية من المحيط الأطلسي، حيث تأتي شحنات المخدرات من أميركا الجنوبية على الجانب الآخر للأطلسي. ويتضح من تقارير وتحقيقات إعلامية أن «القاعدة»، وجماعات إرهابية أخرى قريبة منها، تعد الراعي الأول لعبور المخدرات من منطقة الساحل، وصولاً إلى ليبيا قبل أن تسلك الطريق بحراً نحو وجهتها الأخيرة في أوروبا. وربما لهذا السبب يعتقد خبراءٌ مختصون أن ثمة علاقة إحصائية قوية بين الإرهاب وأنشطة تهريب المخدرات عبر منطقة الساحل. وأمام هذه التحديات الأمنية المركَّبة يتجدد السؤال: من أين جاءت الجماعات الإرهابية في منطقة الساحل؟ وكيف تكوَّنت وتكاثرت وانتشرت في أنحاء المنطقة؟
نحو أزواد
مثَّلت مالي، وبالأخص إقليمُها الشمالي الشاسع «أزواد»، البؤرةَ الرئيسيةَ التي انطلق منها الإرهابُ وتمدد نحو بقية منطقة الساحل، وذلك منذ عام 2006 عند ما بدأ الإقليم يتحول إلى مأوى لعناصر «الجماعة السلفية للدعوة والقتال» الجزائرية التي ضاق عليها الخناق الأمني داخل الجزائر، فرأت أن إقليم أزواد المتاخم للأراضي الجزائرية أكثر مكان يوفر لها شروطَ البقاء على قيد الحياة؛ فهو من الناحية الجغرافية والطوبوغرافية يساعد على الهروب والتخفي والمناورة، كما أنه فراغ صحراوي واسع يكاد يخلو من سلطة الدولة وأجهزتها الأمنية، أما ديموغرافياً، فيتميز الإقليم بقلة سكانه وبانتشار الفقر والأمية بينهم، علاوة على مشاعرهم السلبية حيال الدولة المالية نفسها. وكان الإقليم قد شهد ثلاث موجات من التمرد الانفصالي المسلح، في أعوام 1962 و1989 و2005، لم يكتب النجاح لأي منها، وإن انتهت الثانية والثالثة باتفاق سلام لم يوقف مشاعرَ السخط والثأر في علاقة الجانبين. وهي ظروف استغلتها الجماعةُ الإرهابية ومضت فيها خطوةً أبعد حين أعلنت مبايعتَها تنظيمَ «القاعدة» وتغيير اسمها ليصبح «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي». 
 وقد شكَّل قيام تنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» نقطةَ انعطاف في الأوضاع الأمنية بمنطقة الساحل، إذ استطاع التنظيم ترسيخ وجوده في الإقليم، حيث غضت السلطاتُ الماليةُ الطرفَ عنه طالما أنه لا يستهدفها بشكل مباشر ولا يتبنى مطالبَ انفصالية معلنةً، كما تجنَّب هو أيضاً استفزازَ هذه السلطات وأظهر حرصاً على إرضاء مسؤوليها المحليين في الإقليم. وخلال تلك السنوات التي مارس فيها الجانبان «سياسة المتاركة»، استطاعت «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» اختراقَ المجتمع المحلي الأزوادي، وإقامةَ علاقاتِ تحالف ومصاهرة مع بعض مكوناته العربية والطارقية، كما انخرطت في أنشطة التهريب والاختطاف وتجارة المخدرات.. والتي كانت مصدرَ ثراء لقادة التنظيم وبعض شركائهم المحليين.

أزواد.. ساحة التمرد وقاعـدة الإرهاب
في قلب منطقة الساحل الأفريقي يقع إقليم أزواد المالي الذي أصبح منذ مطلع القرن الحالي منطلقَ الحركات الإرهابية وساحة سيطرتها الرئيسية في المنطقة. لم تُعرف تاريخياً حدودٌ جغرافية واضحة ومحددة بدقة للإقليم، بل اختلفت حدودُه من مصدر تاريخي إلى آخر، وقد ظهر أزواد بمفهومه الواسع لدى أغلب المؤرخين على الخرائط الأولى التي وضعها الرحالة المسلمون ثم الغربيون قبل الاستعمار الأوروبي للمنطقة بفترات طويلة، وذلك باعتباره الطرف الجنوبي الغربي للصحراء الكبرى، وكونه مشتملاً على جزأين: شرقي يقع داخل أراضي جمهورية النيجر الحالية (منطقتي أقادس وأرلت)، وغربي يقع ضمن حدود جمهورية مالي (السودان الغربي سابقاً). ويشترك الجزءان معاً في خصائص بشرية وجغرافية محددة، إذ يغلب عليهما الطابع الصحراوي القاحل، كما يتشكل الثقل الديموغرافي فيهما من قبائل الطوارق والعرب التي تعيش وفق نمط الترحال البدوي. إلا أن مصطلح أزواد في التناول الإعلامي والجيوسياسي المعاصر يشير حصراً إلى أزواد المالي دوناً عن الجزء النيجري، وهو المعنى الذي نعتمده هنا كلَّما استخدمنا هذا المصطلح. 
وبهذا المعنى، فإن إقليم أزواد يقع في شمال جمهورية مالي ويشكل نحو ثلثي مساحتها، أي حوالي 822 ألف كيلومتر مربع، وهو ما يعادل مرة ونصف مرة مساحة فرنسا، القوة الاستعمارية السابقة التي بسطت سيطرتَها على مالي بما فيه أزواد طوال العقود الستة الأولى من القرن العشرين. 
وتعني لفظة «أزواد» في لغة الطوارق (أي التيفانيق) الحوضَ أو المنطقةَ المنخفضة عن أطرافها، في إشارة إلى الوادي الأحفوري الذي يشق الصحراء الكبرى ويمتد من منطقة تمبكتو عند عقفة نهر النيجر جنوباً، إلى سبخة تاودني الملحية وجبال الإفوغاس ومنطقة الحنك شمالا عند الحدود المالية الجزائرية الموريتانية الحالية، ومن كيدال في الشرق (أو منطقة تاملت) على مقربة من ملتقى الحدود الحالية بين مالي والجزائر والنيجر شرقاً إلى الحدود الموريتانية غرباً. 
وينقسم إقليم أزواد المالي إلى ثلاثة مناطق رئيسية: المنطقة الجنوبية المحاذية لنهر النيجر، وهي منطقة زراعية غابوية تتميز بكثرة مياهها وقيعانها وأشجارها، لذا يعتمد سكانها على النشاط الزراعي والرعوي. وإلى الشمال منها تقع منطقة صحراوية تمتد من الوسط باتجاه الغرب والشمال الغربي بدايةً من الخط الواصل بين كيدال في الشرق وتندمه في الغرب، وهي منطقة ذات تضاريس صحراوية جرداء، تتصف بقلة مياهها وندرة أمطارها، وتالياً بقلة سكانها. 
 أما المنطقة الثالثة فتقع في أقصى شمال الإقليم وشماله الشرقي، وتعرف باسم «آدرار الإفوغاس» المشهورة بسلاسلها الجبلية وهضابها الوعرة، وتضم سلسلة جبال كيدال وتسليت وأكلهوك وتايكارين وتكريرت وإفقاس والهكار واضاغ وآدرار سطف. وإلى ذلك، يتكون الإقليم إدارياً من ثلاث ولايات، أكبرها ولاية غاو الواقعة في أقصى الشمال وعاصمتها مدينة غاو التي تعد عاصمة للإقليم، وولاية تمبكتو ومركزها مدينة تمبكتو نفسها التي تعد العاصمة الثقافية والتاريخية لأزواد والصحراء. ثم ولاية كيدال عاصمة الشمال الشرقي والمعرفة أيضاً باسم «آدرار الإفوغاس». وفيما يخص المجموعات السكانية في الإقليم فأهمها من الناحية العددية الطوارق الذين شكلوا سلطنات حكمت الإقليم على مدى قرون عديدة، ثم العرب بما لهم من نفوذ روحي وثقافي، إضافة إلى السونغاي الذين يتمركز معظمهم في مدينة تيمبكتو، وأخيراً قبائل الفلَّان التي تقطن أقصى جنوب الإقليم وفي ولاية موبتي المحاذية له جنوباً. 
وشهد إقليمُ أزواد في تاريخه المعاصر العديدَ من الحروب وثورات التمرد المسلح، خصوصاً بعد عام 1960 عندما نالت مالي استقلالَها عن المستعمر الفرنسي الذي رفض مطالِبَ زعماء الإقليم الداعية لمنحه الاستقلال وعدم ضمه إلى الجمهورية المالية. فبعد ثلاث سنوات من ذلك التاريخ شنَّ الطوارقُ والعربُ تمرداً مسلحاً بقيادة الزعيم الطارقي الإفوغاسي «زيد أغ الطاهر» الذي طالب باستقلال الإقليم عن مالي، واستقطب لحركة تمرده العديدَ من القبائل العربية والطارقية، لكن سرعان ما استطاعت الحكومةُ الماليةُ إخماد تمرده. 
وفي عام 1989 اندلع تمرد مسلح آخر تزعمته «الحركة الشعبية لتحرير أزواد» بقيادة أحمد ولد سيدي محمد ولد بده (أحد أعيان قبائل البرابيش العربية) وقائد «الحركة العربية الأزوادية» الموالية حالياً للحكومة المالية، إلى جانب إياد أغ غالي الذي هو أحد أعيان قبائل الإفوغاس الطارقية والزعيم الحالي لـ«نصرة الإسلام والمسلمين» المسلحة. وفي ذروة المواجهات بين الجيش المالي والانشقاقيين الأزواديين، حدث انشقاقٌ داخل «الحركة الشعبية لتحرير أزواد»، حيث انفصلت القبائل العربية وأسست «الحركة العربية الإسلامية لتحرير أزواد» بقيادة الذهبي ولد سيدي محمد الذي سيصبح وزيرَ الشؤون الخارجية والتعاون الدولي في الحكومة المالية المتشكلة في مارس 2013. أما إياد أغ غالي فوقَّع في عام 1991 اتفاقاً مع الحكومة المالية (بوساطة جزائرية) منهياً تمردَ فصيله ومنضماً إلى القوات المالية في قتالها ضد الحركات الأزوادية الأخرى الرافضة للسلام، مما أحيا نار الصراع القديم داخل الطوارق بين قبائل الإفوغاس وقبائل الايمغاد التي أنشأت «الجيش الثوري لتحرير أزواد»، علاوةً على قبائل شامنمس التي أسست فصيلا خاصاً بها يدعى «الجبهة الشعبية لتحرير أزواد». 
بيد أن هذه الحركات رضخت أخيراً لخيار السلم ووقعت مجتمعةً اتفاق سلام في تيمبكتو مع الحكومة المالية عام 1996. لكن الحرب اشتعلت مجدداً وعاد الطوارق في عام 2005 إلى حمل السلاح متهمين الحكومة المالية بالتنكر للاتفاقيات السابقة. وتجدد التمرد هذه المرة تحت قيادة العقيد إبراهيم أغ باهانغبا، أحد المساعدين السابقين لإياد أغ غالي الذي أصبح مسؤولا في وزارة الخارجية المالية. وفي هذه المرة أيضاً نجحت الحكومة المالية في خلق صراع بين العرب والطوارق، مستغلةً مهاجمةَ المتمردين الطوارق معسكرات الجيش المالي التي يقودها ضباط عرب، كما استفادت مجدداً من العداء التاريخي بين قبائل الإفوغاس الموالية لها وقبائل الايمغاد التي تقود التمرد. وبعد هزيمة التمرد الأزوادي الثالث غادر العقيد إبراهيم باهانغا والمئات من رجاله مناطقَهم في أزواد متجهين إلى ليبيا، وهناك ضمهم القذافي إلى قوات المغاوير التي تعد نخبة كتائبه المسلحة.
وكان سقوط نظام القذافي في عام 2011 حدثاً مفصلياً شكلت تداعياتُه تحولاً زلزالياً في أمن منطقة الساحل الأفريقي، لاسيما إقليم أزواد الذي استقبل آلاف المقاتلين الطوارق العائدين من ليبيا، ومعهم كميات كبيرة من أسلحة الجيش الليبي ومعداته. وكان المستفيد الأول من هذه العودة هو «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، وبعض الجماعات الإرهابية الناشئة تحت رعايته، مما سيرسم بداية مرحلة جديدة من الحرب والفوضى والإرهاب في الإقليم، سرعان ما ستمتد مخاطرها الأمنية إلى باقي دول منطقة الساحل الأخرى.
ما بعد «سيرفال» 
نجحت عملية «سرفال» العسكرية التي شنتها فرنسا مطلعَ عام 2013 في طرد المسحلين وإخراجهم جميعاً من مدن الإقليم، لتدخل الجماعات الإرهابية طوراً من الضعف والتقهقر عرفت خلاله حالات من الانشطار والانصهار أسفرت عن تحلل جماعتي «أنصار الشريعة» و«التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، كما أضعفت كلاً من «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«أنصار الدين»، وإن بقيا التنظيمين الرئيسيين في خريطة الجماعات الإرهابية داخل أزواد. وإلى جانبهما وُجد تنظيمٌ إرهابيٌ آخر هو «جبهة تحرير ماسينا» التي تنشط في وسط مالي وجنوبها، وتعد جناحاً لحركة «أنصار الدين» في تلك المناطق.وأُعلن في مارس 2017 عن اندماج أربعة تنظيمات إرهابية، هي «أنصار الدين» و«جبهة تحرير ماسينا» و«إمارة منطقة الصحراء الكبرى» و«تنظيم المرابطون»، في تنظيم جديد باسم «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» تحت قيادة «إياد أغ غالي» زعيم «جماعة أنصار الدين». ومثّل قيام التنظيم الجديد، في أحد أوجهه، استجابةً لبروز «تنظيم الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى» (الفرع الأفريقي لـ«داعش») كمنافس لتنظيم «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، حيث يخوض التنظيمان معاركَ مريرةً ضد بعضهما البعض في منطقة المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، كما استقطب الفرعُ الأفريقي لـ«داعش» بعضَ المنشقين عن «القاعدة»، بما في ذلك جناحٌ من تنظيم «المرابطون» (تحالف بين «لواء الملثمين» و«حركة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» تكّون في أغسطس 2013) بقيادة  أبو وليد الصحراوي الذي أعلن مبايعةَ البغدادي، وردّ هذا الأخير بتعيين الصحراوي قائداً لفرع التنظيم في الصحراء الكبرى، قبل أن تعلن القواتُ الفرنسية تصفيتَه في سبتمبر 2021. ويبدو أن الضربة التي تعرض لها «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، بسبب عملية «سرفال» العسكرية الفرنسية، ثم عملية برخان العسكرية الفرنسية الأخرى التي أعقبتها في أغسطس 2014، هيأت الأرضيةَ لـ«داعش» الذي بدأ يصل إلى المنطقة عقب هزيمته في سوريا والعراق. ومنذ إنشائه عام 2015، ظل الفرع الأفريقي لـ«داعش» ينشط بالأساس داخل المثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو، دون أن يستطيع الوصول إلى أزواد حيث توجد «القاعدة» والجماعات الحليفةُ لها. ويهدف إنشاء «جماعة نصرة الإسلام والمسلمين» إلى تعزيز وجود الجماعة الإرهابية وتوسيع نطاق عملياتها في منطقة الساحل، خاصة في ظل انسحاب قوات الجيش الفرنسي من الأراضي المالية، وظهور خلافات داخل «القوات المشتركة» التابعة لمجموعة دول الساحل الخمس. 
المجموعة وقواتها 
كان إنشاء مجموعة دول الساحل الخمس بتشجيع من فرنسا، بحثاً عمن يشاركها في تحمّل العبء الأمني وفاتورته البشرية والمالية لمواجهة الجماعات الإرهابية في مالي. وقد تأسست المجموعة في فبراير 2014 خلال قمة نواكشوط التي ضمت الدولَ الخمس، بوركينافاسو وتشاد ومالي وموريتانيا والنيجر. وتهدف المجموعة إلى وضع إطار للتعاون والتنسيق من أجل محاربة التهديدات الإرهابية في المنطقة، وإلى تعزيز الروابط بين قضايا الأمن والتنمية الاقتصادية. أما الهدف المباشر فكان إنشاء قوة عسكرية مشتركة لمكافحة الإرهاب، وهو ما قررته قمة المجموعة في نجامينا، 20 نوفمبر 2015، إذ أعلنت عن تشكيل قوة عسكرية مشتركة من أجل ثلاثة أهداف: محاربة الإرهاب، ومكافحة الجريمة المنظمة العابرة للحدود، ومكافحة تهريب البشر. وتتكون القوة العسكرية المشتركة من خمسة آلاف جندي يتوزعون على سبع فرق عسكرية، تنتشر في ثلاث مناطق: الشرق والوسط والغرب. أما المقر الرئيسي للقوة فكان بمدينة سيفاري بوسط مالي، قبل نقله إلى العاصمة باماكو صيفَ عام 2018، إثر هجمات إرهابية تعرضت لها سيفاري.
 وبدأت «القوة العسكرية المشتركة» تنفيذ عملياتها الأمنية الأولى في نوفمبر 2017، بالتنسيق مع جيوش مالي والنيجر وبوركينافاسو، على الحدود بين الدول الثلاث، وبدعم استخباراتي من القوات الفرنسية. 
أداء دون نتائج
لكن فرنسا أجْلت قواتها من مالي، على خلفية التوتر بين باريس والمجموعة العسكرية الحاكمة في باماكو منذ عام 2020، وإن أبقتْ على وجودها العسكري في باقي دول المنطقة، لاسيما النيجر والتشاد. لكن الانسحاب الفرنسي قلل من فاعلية أداء «القوات المشتركة» وحرمها من الظهير الفرنسي في مواجهة الجماعات الإرهابية. وإلى ذلك فقد استجدَّ تطوران حدَّا من الديناميكية النشطة لمجموعة دول الساحل: أولهما أن القادة المؤسسين للمجموعة غادروا سدة الحكم جميعاً، وكان آخرهم الرئيس التشادي إدريس ديبي الذي قتل أثناء مواجهة مع معارضيه المسلحين في أبريل 2021. أما الأربعة الآخرون فقد غادر اثنان منهم المنصبَ الرئاسي بموجب موانع دستورية تحظر الترشح لفترة رئاسية ثالثة (رئيس النيجر محمدو يوسفو والرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز)، واثنان أطيح بهما في انقلابين عسكريين، وهما الرئيس المالي إبراهيم أبوبكر كيتا (أغسطس 2020) والرئيس البوركينابي روك كابوري (يناير 2022). أما التطور الثاني فهو الأزمة التي سببها الانقلابان العسكريان في مالي وبوركينا فاسو، حيث فرض كل من الاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية لغرب أفريقيا عقوبات على الدولتين، فردت مالي عام 2022 بإعلان انسحابها من المجموعة ومن قوتها العسكرية المشتركة. ثم جاء قرارُ الحكومة المالية بالتخلي عن العلاقة مع فرنسا، الحليف التقليدي لبامكو، وتعويضها بتحالف جديد مع روسيا، ليعمِّق الخلافات داخل مجموعة الساحل الخمس، حيث تتمسك كلٌّ من التشاد والنيجر بالحليف الفرنسي وترفض الدورَ الروسي الجديد في المنطقة. 
لكن حتى قبل أن تحدث مثل هذه الخلافات، وحين كانت القوة العسكرية المشتركة تقوم بالعمليات القتالية (نفذت منذ انطلاقها 128 عملية قتالية)، إلى جانب القوات الفرنسية والألمانية والدولية، فإن كل هذه الجهود العسكرية لم يكن لها تأثير أمني كبير، إذ تواصلت الهجمات الإرهابية وتوسع نطاقها. 
وربما لهذا السبب أخذت الدول الكبرى، خاصةً فرنسا وألمانيا، تشعر بالضجر من محدودية نتائج مجهودها العسكري والأمني هناك، فسحبت فرنسا جميع قواتها من مالي، بناءً على طلب الحكومة العسكرية ودعوات الشعب المالي نفسه، والذي بدأ يميل للاعتقاد بأن المعالجة العسكرية والأمنية ليست الحلَّ الكافي لمشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية!.
 وكانت مجموعة دول الساحل نفسها قد شددت في وثيقتها الداخلية «استراتيجية التنمية والأمن لمجموعة دول الساحل الخمس» (2016)، على ضرورة ضمان السلام والأمن والتنمية المستدامة في المنطقة، مشيرةً إلى أولوية العمل من أجل إرساء تنمية اقتصادية واجتماعية تكون بمثابة الضامن الأكبر للاستقرار والأمن في المنطقة، أي مجابهة التحديات الأمنية وكسب الرهانات التنموية في الوقت ذاته!.

أطماع السيطرة
كان الحدث الليبي نقطة تحول أخرى في الواقع الأمني لإقليم أزواد، ففي أواخر عام 2011 بدأ آلاف الأزواديين العائدين من ليبيا يتجمعون داخل الإقليم، لتتأسس على أيديهم «الحركة الوطنية لتحرير أزواد»، كفصيل قومي علماني يحاول فرض معادلة جديدة إزاء الحركات الأصولية المتطرفة داخل الإقليم، أي «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، والحركات الثلاث المقربة منها؛ «جماعة أنصار الدين» و«جماعة التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا» و«جماعة أنصار الشريعة». ولم تلبث «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» أن شنت حملةً عسكرية ضد الجيش المالي وقواعده العسكرية في الإقليم، واستطاعت إسقاط بعض القواعد ولم تستطع الاستيلاء على بقية القواعد الأخرى إلا بمساعدة «أنصار الدين» و«التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، لتسيطر الحركات الثلاث معاً، في غضون بضعة أسابيع، على جميع القواعد العسكرية المالية في الإقليم، وأيضاً على مدنه الرئيسية الثلاث، كيدال وتمبكتو وغاو. ولعل الثمار السريعة لذلك التعاون أغرت «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» بالتحالف مع «أنصار الدين» لتعلنا معاً قيام «جمهورية أزواد الإسلامية» المستقلة من جانب واحد، يوم 6 أبريل 2012. لكن تحالف الحركتين لم يُعمَّر طويلاً بسبب الانقلاب الذي نفذته «أنصار الدين» متعاونةً مع الجماعات المتطرفة المسلحة الأخرى لطرد «الحركة الوطنية لتحرير أزواد» من مدن الإقليم، مما شكَّل انتكاسةً للحركة الأزوادية، حيث تفرَّد المتطرفون المسلحون بمدن الإقليم وتقاسموا السيطرةَ عليها؛ فأصبحت تمبكتو خاضعةً لتنظيمي «القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي» و«أنصار الدين»، وغاو تحت سيطرة «التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، أما كيدال فاستأثرت بها «أنصار الدين» لنفسها. 
 لكن الجماعات الإرهابية الثلاث لم تكتف بالسيطرة على الإقليم وعواصمه الثلاث، بل راحت تتطلع لتوسيع سيطرتها نحو مزيد من الأراضي المالية، وهو ما أثار مخاوف باماكو التي كانت ما تزال تحاول لملمة نفسها عقب الانقلاب العسكري الذي أطاح بالرئيس أمادو توماني توريه، كما أثار مخاوف عواصم عديدة في المنطقة وخارجها.
حيوية اقتصادية
تمثل منطقة الساحل الأفريقي بدولها الخمس كتلةً متجانسة إلى حد كبير، سواء من الناحية الجغرافية إذ تغلب عليها الصحراء، أو من الناحية الديموغرافية حيث يشكل الشباب القاعدة العريضة لهرمها السكاني، أو من حيث تكوينها الثقافي المتشابه متمثلاً في الإسلام السني (نحو 97% من السكان مسلمون سنة) وتأثير الثقافة واللغة الفرنسيتين (البلدان الخمسة معاً خضعت للاستعمار الفرنسي طيلة العقود الستة الأولى من القرن العشرين)، علاوة على غلبة القطاعين الأوليّين الاستخراجي والزراعي على البنية القطاعية لاقتصاداتها.
وتتوفر المنطقةُ على الشروط البشرية والمادية لبناء اقتصادات ناهضة ومتطورة؛ فهي غنية بمواردها البشرية التي تضم نحو 55 مليون شخص في سن العمل، أكثر من ثلثيهم شباب تحت سن الخامسة والعشرين. كما تمتلك موارد زراعية كبيرة (الماء والأراضي الخصبة)، مما يؤهلها لضمان الأمن الغذائي وتصدير فائض زراعي يعزز مداخيلها من العملات الأجنبية ويحسن موازين مدفوعاتها. ويختزن باطنُ أرض المنطقة ثرواتٍ معدنيةً مهمة، مثل اليورانيوم والذهب والحديد والنفط والغاز الطبيعي. ويعد اليورانيوم أحد الموارد المعدنية الرئيسية في المنطقة، حيث يتم تعدينه بشكل أساسي في النيجر التي تعد أحد أكبر منتجيه في العالَم. كما تتوفر المنطقة على الذهب الذي توجد رواسبه في كل من موريتانيا ومالي وبوركينا فاسو. وقد أصبحت هذه الأخيرة منتجاً رئيسياً للذهب وتضاعف إنتاجها منه ثلاث مرات بين عامي 2012 و2018. وهذا بالطبع إلى جانب معادن أخرى مثل الفوسفات والنحاس والزنك، وكذلك الحديد الذي تعد صادرات خامه المصدرَ الرئيسي لإيرادات التصدير في موريتانيا. وتتوفر المنطقة على النفط والغاز الطبيعي، لا سيما في موريتانيا والنيجر وتشاد، وإن كان إنتاجه قد تأخر وما يزال في مراحله الأولى بسبب مشكلات البنية التحتية والأمن والحوكمة.
ومن حيث الأداء الاقتصادي، تعد منطقة الساحل إحدى أكثر المناطق ديناميكيةً في أفريقيا، إذ حققت هذه المنطقة التي يناهز ناتجها المحلي الإجمالي 90 مليار دولار، قفزاتٍ ملحوظةً في مجال التنمية الاقتصادية خلال التسعينيات ومعظم سنوات العقدين الأول والثاني من الألفية الثالثة. ووفقاً لتقرير «التنمية البشرية» الذي يصدر سنوياً عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، فقد سجل اقتصاد منطقة الساحل في الفترة بين 1991 و2009 نمواً بمعدل بلغ متوسطه نسبة 4.2% سنوياً. وازداد في الفترة بين عامي 2010 و2019 ليبلغ 4.8% سنوياً، وهو أحد أعلى معدلات النمو الاقتصادي في القارة. ونتجت عن الزيادة في نمو الاقتصاد الكلي زيادةٌ في نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنحو 67% بين عامي 1990 و2020، حيث بلغ 885 دولاراً في المتوسط. واستطاع بلدٌ واحدٌ على الأقل (موريتانيا) الوصولَ إلى وضع البلدان ذات الدخل المتوسط الأدنى بداية من عام 2010. كما نتج عن زيادة النمو الاقتصادي تراجعٌ كبير لمعدل الفقر المدقع، إذ انخفض من 75% عام 1990 إلى 41% عام 2018، وهو انخفاض أقوى مما شهدته أي منطقة أفريقية أخرى خلال الفترة نفسها، كما يسجل التقرير في نسخته لعام 2019. وخلافاً لما كان متوقعاً من أن جائحة كورونا خلال عامي 2020 و2021 ستقوض اقتصادات منطقة الساحل الأفريقي، فقد نجحت هذه الاقتصادات، وفقاً للتقرير السنوي للبنك الدولي الصادر عام 2022، في النجاة من الصدمة المرتبطة بالجائحة وآثارها، ولم يتجاوز الانكماش في ناتجها المحلي الإجمالي نسبة (-0.4%) مقارنةً بالانكماش الذي عانته بقية القارة الأفريقية وهو (-1.5%). 
وحققت منطقة الساحل تقدماً ملحوظاً في مؤشر التنمية البشرية (HDI) الذي يستخدمه برنامج الأمم المتحدة الإنمائي لقياس مستوى رفاهية الشعوب في العالم من خلال ثلاثة أبعاد (الصحة والمعرفة ومستوى المعيشة)، حيث أحرزت المنطقة خلال الفترة بين عامي 1990 و2019 معدل نمو نسبته 1.9% سنوياً، متجاوزةً عدة مناطق أخرى في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
وتمثل حالة مالي دليلاً حياً على الحيوية الاقتصادية لمنطقة الساحل، إذ تحدث تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي، العام الماضي، بإيجابية وتفاؤل عن الاقتصاد المالي، قائلا إنه أظهر مرونةً غير معتادة، حيث بلغ متوسط نموه على مدى السنوات العشر (2012- 2022) نسبة 4%، وظل التضخم فيه تحت السيطرة (أقل من 2 % في المتوسط)، وكذلك الدَّين العام للبلاد والذي لم يتجاوز نسبة 55.9 % من ناتجها المحلي الإجمالي. كما احتفظت مالي بقدرة فريدة على الوفاء بالتزاماتها المالية الخارجية، إذ أعلنت في أغسطس الماضي، وبعيد رفع العقوبات التي فرضتها عليها المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا، عن تسوية ديونها الخارجية جميعاً والبالغة 85.5 مليار فرانك أفريقي. وفيما يخص آفاق الاقتصاد الكلي لدولة مالي، فقد بدت جيدةً بالنسبة لصندوق النقد الدولي الذي يتوقع له معدلَ نمو نسبته 5.3% بنهاية العام الجاري (2023)، كما يتوقع بقاءَ التضخم تحت السيطرة (أقل من 2%)، وكذلك الدين العام الذي سيمثل 55.8% من الناتج المحلي الإجمالي خلال العام نفسه.
مستويات التنمية
والحقيقة الواقعية هي أن دول الساحل، وفي مقدمتها مالي، تعاني أوضاعاً اقتصادية واجتماعية معقدة، يزيدها السياقُ الأمني والاجتماعي والبيئي المضطرب تعقيداً. فمواقع هذه الدول على مؤشر التنمية البشرية، كما تضمّنه تقرير التنمية البشرية لعام 2020 /2021، جاءت كلها بعد الترتيب 157 في قائمة من 189 دولة شملها المؤشر، وجاءت أربعٌ منها في المواقع العشرة الأخيرة من التصنيف، وهي: النيجر (189) والتشاد (187) ومالي (184) وبوركينا فاسو (182)، مع نعت أدائها جميعاً في مجال التنمية البشرية بـ«الضعيف». كما أخذت مواقع متدنية في التقرير الأخير من المؤشر نفسه (2021/2022)، والذي شمل هذه المرة 191 دولةً، وكانت موريتانيا عضوَ المجموعة الوحيد الذي حصل على تقييم «متوسط»، إذ جاءت في المرتبة 158، بينما حصلت بقية دول المجموعة على تقييم «ضعيف» واحتلت مراتب متأخرة في القائمة: بوركينافاسو (184) ومالي (186) والنيجر (189) والتشاد (190). 
ويعني ذلك أن المنطقة، كما أوضح برنامج الأغذية العالمية في تقريره الصادر في عام 2022، تمر بتحول حرج وتشهد أزماتٍ متعددةً يحرّكها الصراع وتأثير المناخ والتداعيات الاقتصادية لكوفيد-19، يضاف إليها ارتفاع تكاليف الغذاء والوقود والأسمدة. ويعتقد البرنامج الأممي أن الذين عانوا الجوع في المنطقة خلال عام 2022 يبلغ عددهم 12.7 مليون شخص، أي ثلاثة أضعاف الرقم المسجل في عام 2019. 
 كما تتحدث منظمة «العمل ضد الجوع» الإنسانية العالمية عن وضع الأمن الغذائي في منطقة الساحل بعد جائحة كورونا، وتشير في بياناتها الصادرة خلال عامي 2022 و2023 إلى تدهور ملحوظ في السياق الإنساني العام داخل المنطقة، بسبب الفقر والنزاع والتهجير القسري وتغير المناخ وسوء الإدارة وتردي الخدمات الأساسية، علاوة على آثار الجائحة. وتذكر المنظمة أن هذه الأسباب ساهمت مجتمعةً في زيادة انعدام الأمن الغذائي، حيث تظل النزاعات والعنف والجفاف.. المحركاتُ الأساسية لانعدام الأمن الغذائي في المنطقة. ووفقاً للمنظمة فإن الاضطرابات الأمنية تؤثر بشدة على المناطق الريفية التي يتكوّن معظم سكانها من الرعاة والمزارعين، مما يؤدي إلى تدمير سبل عيشهم ويعرّضهم لمزيد من انعدام الأمن الغذائي، كما يغذي أسباب الصراع. وتساهم مظاهر التغير المناخي وتداعياته، مثل الفيضانات المتكررة والتهاطلات المطرية غير المنتظمة، في تدهور الأوضاع الغذائية والمعيشية لسكان المناطق الريفية بالأساس، الأمر الذي يزيد أسباب النزوح نحو المدن ويضاعف الضغط على الموارد المحلية، وينشِّط ديناميات الصراع في منطقة يعيش نحو 40% من سكانها تحت خط الفقر.
ومن ذلك يتضح أن دول منطقة الساحل ما فتئت تعاني مستوياتٍ متدنيةً من التنمية، وأن بعضها يأتي ضمن قوائم البلدان الأقل نمواً في العالم. ولهذا فإن ملايين الأشخاص في المنطقة يواجهون شبح المجاعة كل عام، إضافةً إلى ملايين آخرين بحاجة لمعونات عاجلة. ونبهت منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة «الفاو»، في تقرير صادر عنها أوائل العام الجاري، إلى تزايد انعدام الأمن الغذائي في منطقة الساحل، محذرةً من أن الوضعية الغذائية في الساحل تشهد تدهوراً بسبب عوامل بيئية وأمنية واجتماعية، وأن إنتاج بلدان المنطقة من الحبوب والمحاصيل الاستراتيجية لا يستجيب للزيادة السكانية المرتفعة فيها. 
أولويات لم تتحقق
إن الواقع الاقتصادي والتنموي لمنطقة الساحل هو ما دفع قادةَ دول مجموعة الخمس إلى إصدار «استراتيجية الأمن والتنمية لمجموعة دول الساحل الخمس»، في سبتمبر 2016، والتي أكدوا فيها على أربعة أهداف: الدفاع والأمن، الحوكمة، البنية التحتية، والتنمية البشرية، مشيرين إلى ضرورة ضمان تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، في إطار استجابة مناسبة للسياقات الجغرافية والديموغرافية والاقتصادية والأمنية. وكان أحد عناصر الاستجابة ذلك البرنامج الاستثماري الضخم الذي وضعته المجموعة خلال قمتها في نواكشوط (مارس 2019)، والذي أطلقت عليه «برنامج الاستثمارات ذات الأولوية»، وهو برنامج تبلغ قيمته 15 مليار دولار أميركي، ويستهدف دعم وتطوير المناطق الأكثرَ هشاشةً في بلدان المجموعة، وخلق بيئات عمل وإنتاج تُبعد الشباب عن أي أنشطة غير قانونية. ويتصل هذا البرنامج الاستثماري بأجندة تنموية كانت دول المجموعة قد أطلقتها خلال اجتماع المانحين الذي احتضنته نواكشوط أيضاً في ديسمبر 2018، وهي أجندة تتضمن 40 برنامجاً تنموياً تقرر تنفيذها خلال السنوات الثلاث التالية. والتزمت عدة دول غربية وعربية بتقديم دعم مالي مهم لهذه البرامج، وأعلن الاتحاد الأوروبي مساهمتَه بـ800 مليون يورو لصالح أولويات التنمية في الساحل، كما تعهدت فرنسا بمنح 500 مليون يورو للهدف نفسه، وأعلن المصرف العربي للتنمية الاقتصادية في أفريقيا عن تقديم 200 مليون يورو لدعم برنامج الاستثمارات ذات الأولوية. 
 لكن ماذا تحقق من هذه الوعود وتلك الالتزامات؟ وهل أنجزت دولُ المجموعة رهاناتِها التنمويةَ؟ وما الذي حققته لصالح المناطق الأكثر هشاشةً؟ 
ربما يمكن القول إنه لا شيء تقريباً قد تحقق من تلك الوعود والالتزامات والبرامج.. وذلك لأسباب على رأسها جائحة كورونا التي شغلت دولَ العالَم بأوضاعها الداخلية، الصحية والاجتماعية، وتغير القادة في جميع بلدان مجموعة الساحل الخمس، وحدوث انقلابات عسكرية في بلدين منها (مالي وبوركينافاسو) ترتبت عنهما عقوبات قارية وإقليمية وخلافات مع فرنسا بالخصوص، فضلاً عن تصاعد الإرهاب مجدداً في كل من مالي وبوركينا فاسو ليستقطب طاقات الدولتين من أجل مواجهته، دون أن تنجحا في ذلك إلى الآن.
رهانات مستقبلية
أضاف وجودُ جماعاتِ الإرهاب والعنف على مدى العقدين الماضيين تحدياً آخر إلى حزمة كبيرة من العوائق والأزمات التي عانتها دولُ منطقة الساحل الأفريقي منذ استقلالها، بدءاً من نقص التجانس القومي داخل الكيانات الوطنية الجديدة، وما نتج عنه من نزاعات عرقية وقبلية وحزبية على السلطة، مروراً بعثرات التحول السياسي والتطور الاقتصادي، وليس انتهاءً بموجات الجفاف التي أخذت تضرب المنطقةَ منذ مطلع السبعينيات. وقد تطلب الأمرُ أعواماً كي تَفهم هذه الدول أن الإرهابَ ما أن يظهر في بلد ما حتى يصبح تهديداً لبقية جيرانه، إذ كان تسامح الحكومة المالية مع وجود «القاعدة» في أزواد، بدايةً لتمدد التنظيم الإرهابي نحو بقية دول المنطقة، والتي هي أيضاً بدورها اكتفت بالدفاع عن أراضيها فحسب. وحين وصل التحدي الإرهابي إلى مراحل متقدمة وصارت الجماعات الإرهابية على وشك اقتحام العاصمة المالية باماكو، لم يكن بد للسلطات المالية من الاستعانة بتدخل عسكري فرنسي كان له أثرُه الحاسمُ في هزيمة الإرهابيين وتحرير مدن الشمال المالي من قبضتهم. لكن الوجود العسكري الفرنسي، ومعه الدعم الأفريقي والدولي، لم يستطع تحقيق أمن مستديم في البلاد، إذ سرعان ما أعادت الجماعات الإرهابية تنظيم صفوفها واستئناف أنشطتها المسلحة، رغم الوجود الروسي الجديد في مالي. ولم يتوقف الإرهابُ هذه المرة على إقليم أزواد فحسب، بل تمدد وتوسع وانتشر نحو باقي مناطق البلاد، ثم عبر الحدود إلى دول الجوار، وكثف عملياتِه داخل منطقة المثلث الحدودي المشترك بين كل من مالي وبوركينافاسو والنيجر.
وقد تمحورت المقاربات الوطنية والإقليمية إزاء الإرهاب حول المواجهة العسكرية والأمنية بالأساس. وهو التوجه الذي لقي تثميناً من قبل الدول الكبرى، والتي ساهمت هي أيضاً بوسائلها العسكرية في المواجهة أكثر مما ساهمت بوسائلها التنموية. 
إلا أن دروس التجربة أوضحت أخيراً، وهذا ما أكده الباحثون والخبراءُ من قبل، أن المقاربةَ العسكريةَ الأمنية بمحدداتها الخشنة يصعب أن تحقق مرادَها في القضاء التام على التحدي الأمني الأخطر في منطقة الساحل، أي الإرهاب والتطرف، دون وجود مقاربة موازية ترتكز إلى رهانات تنموية شاملة وواضحة وقابلة للتحقق. ويأتي في مقدمة الرهانات التي ينبغي كسبها من أجل الانتصار على الإرهاب، وباقي التحديات الأمنية الأخرى، رهان القضاء على الهشاشة، أي تقليص الفقر والبطالة وتحفيز النمو وتطوير الخدمات وتحسين نوعية الحياة وتحقيق الحكامة وإنهاء الفجوة بين السلطة المركزية والمجتمعات الطرفية.
إن جدلية الأمن والتنمية في منطقة الساحل توضح بجلاء أنه لا مناص من التنمية لبناء الأمن، وأن الخروج من دوائر العنف والإرهاب إلى دائرة الأمن والاستقرار شرط لتحقيق التنمية، وأنه لا تنمية إلا في سياق أمني ملائم وموائم!
المصادر
* «المؤشر العالمي للإرهاب»،  في  نسخه لأعوام 2018 و2019 و2020 و2021 و2022 و2023
* تقرير التنمية البشرية الصادر عن برنامج الأمم المتحدة للإنماء، في نسختيه لعامي 2020/2021 و2021/2022
* التقرير السنوي لصندوق النقد الدولي الصادر عام 2022
* تقريرٌ لـ«الفاو» حول الأمن الغذائي، صادر عام 2023
* أخبارُ العمليات الإرهابية في منطقة الساحل على مدى شهر أبريل 2023، كما نقلتها ثلاثُ وكالات أنباء عالمية هي: الفرنسية والألمانية ورويترز
* «استراتيجية الأمن والتنمية لمجموعة دول الساحل الخمس»، الصادرة عن السكرتارية العامة للمجموعة عام 2016
* التقرير السنوي للبنك الدولي الصادر عام 2022
* تقرير برنامج الغذاء العالمي لعام 2022
* بياناتٌ صادرة عن منظمة «العمل ضد الجوع» الإنسانية العالمية في عامي 2022 و2023





 

جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©